قال المفكر المغربي الكبير عبدالله العروي في أحد لقاءاته عبر القنوات الفضائية: “أرفض أن تكون لغتنا الوطنية هي الدارجة, لأن هذا سيفصلنا عن محيطنا وثقافتنا … أنا غير مستعد لأن أفرط في لغة يتكلمها 400 مليون شخص, ويشتغلون عليها لتكون في يوم من الأيام في مستوى غيرها من الأمم المتقدمة”.

ففي هذه العبارات يتحدث العروي عن اللغة العربية الفصحى وأهمية التمسك بها, معتقدا بأن التفريط بها سيؤدي بالضرورة لانفصال المواطن المغربي عن محيطه وثقافته وعن موروثاته.

من البديهي أن ماهية هذه العربية الفصيحة التي تحدث عنها العروي كانت ولم تزل مثارا للجدل وللأخذ والرد, وإعطاء إجابة عن طبيعة هذه العربية الفصيحة سيظل من الأمور الحساسة لأن العرب أنفسهم ليس بالضرورة أن يرجعوا لنفس الأصول الدينية أو التاريخية أو الأدبية.

ينصرف مصطلح (العربية) في أذهان كثير من أبنائها إلى (الفصحى) تحديداً, وهم يعدونها النموذج الأعلى الذي أفضى (تحريفه) بسبب انتشار اللحن بين العامة إلى نشوء العاميات المعاصرة.

وحسب تصنيف فرجسون في نظريته حول (ازدواجية اللغة) فإن الأشكال اللغوية في مجتمع ما تتكون من نوعين: النوع الأول يكون عادة على شكل لهجة فصحى تسمى بالشكل اللغوي الأعلى (High Variety) والنوع الثاني ويأخذ شكل اللهجة العامية ويسمى بالشكل اللغوي الأدنى (Low Variety).

والشكل اللغوي الأعلى حسب فرجسون له نظام كتابة متفق عليه من قبل أصحاب اللغة, وقد ألف له العديد من الكتب وله العديد من كتب النحو والمعاجم وهذا بلا شك يسهل عملية الرجوع إليها, بالإضافة إلى كونه مختلفا اختلافا كبيرا عن غيره من الأنواع ومنظم أو مصنف للغاية.

وعادة ما يكون الشكل اللغوي الأعلى أكثر تعقيدا من الناحية اللغوية (الصرفية والنحوية والصوتية), وهو عادة لغة لأدب مكتوب يحظى باحترام أفراد المجتمع, ويكون مصدر هذا الأدب إما من عصور سابقة وإما من مجتمع أخر غير المجتمع الذي توجد فيه ازدواجية اللغة.

ويتمتع الشكل اللغوي الأعلى من اللغة بتراث أدبي أوسع وأضخم من التراث الأدبي الذي تتمتع به اللهجة الدنيا, ويكون هذا التراث الأدبي محل تقدير واحترام فضلا عن كونه اتصالا بماض زاهر مجيد, وهو عند العرب يتمثل في الشعر الجاهلي والتراث الأدبي الضخم الذي وصل إلينا من العصر النبوي والعصر الأموي مرورا بالعصر العباسي والأندلسي.

وبلا شك يعد القرآن الكريم المعيار الأول في الفصاحة وهو العامل الحاسم في استبقاء العربية الفصحى كل هذه الحقب التاريخية المتطاولة, وما أدى إليه من نشوء الدولة الإسلامية التي اتخذت اللغة العربية لغة دين وحضارة.

توصف اللغة العربية الفصحى أنها فوق مستوى العاميات, فهي لغة مشتركة لا تنتمي صفاتها أو عناصرها إلى بيئة محلية بعينها أي أنها ليست لغة قبيلة بعينها, وقد جعل العرب, بوعي أو بدون وعي منهم, هذه اللغة المشتركة هي لغتهم الأدبية قبل الإسلام واستخدموها في الشعر والخطابة, والشعر الجاهلي جاءنا في لغة أدبية موحدة في شكلها العام, وكانت هذه اللغة الموحدة دليل على وجود لغة عربية مشتركة وهي اللغة التي نزل بها القرآن الكريم.

وعند البحث عن الظواهر الصوتية والنحوية التي تميز العربية الفصحى وموازنتها بالظواهر الصوتية والنحوية التي تبدو في القراءات القرآنية تجعلنا نكتشف أن هناك تماثلا قد يصل حد التطابق بينهما, ويقول عبده الراجحي في أصل العربية الفصحى: “والرأي بعد هو ما نحسبه موافقا لطبيعة التطور اللغوي, وهو أن شبه الجزيرة العربية كانت بها لهجات كثيرة مختلفة تنتسب كل منها إلى أصحابها وإلى جانب هذه اللهجات كانت هناك لغة عربية مشتركة تكونت على مر الزمن بطريقة لا سبيل لنا الآن إلى تبينها, وهذه اللغة المشتركة لا تنتسب إلى العرب جميعا”.

هذه اللغة المشتركة هي لغة الأدب الرفيع عند الشعراء, فقد كان يشيع شعر الشاعر وينشد في المواسم والأسواق والحج والأسمار, لذلك كان الشاعر يسمو بلغته عن الصفات اللهجية الضيقة ويحاول أن ينظم بدءا باللغة الأدبية التي كانت مستمرة في التوسع والغنى على حساب اللهجات نفسها, وهذه اللغة المشتركة هي ما نستطيع أن نطلق عليها الأن مسمى اللغة العربية الفصحى.