لم يكن لقاء ترامب ـ بوتين على هامش قمة مجموعة العشرين التي استضافتها ألمانيا في السابع من يوليو الجاري، كاشفاً لحدود توتر العلاقات بين واشنطن وموسكو فقط، إنما كان مؤشراً ضمن مجموعة من المؤشرات التي تُشير إلى احتمالات توجه العلاقات بين الجانبين نحو حرب باردة جديدة.

فرغم مرور نحو 6 أشهر على وصول ترامب للبيت الأبيض، إلا أن العلاقات الأمريكية – الروسية التي كان يُتوقع لها أن تشهد انفراجه عقب إدارة أوباما، تمر الآن بفترة حرجة في تاريخها على خلفية الارتبارك في صنع قرار السياسة الخارجية الأمريكية في الكثير من الملفات والقضايا وطموحات السياسة الروسية نحو إعادة مكانتها العالمية.

وأكدت التقارير الدولية أن التوقعات قبل تولي ترامب المنصب، كانت تشير إلى إمكانية حدوث تحسن، بل ونقلة نوعية في علاقات واشنطن وموسكو- ، ولكن لا تزال احتمالات تطبيع العلاقات بينهما على النحو الذي كان متوقعاً غير واقعية، ليس فقط بسبب الخلافات حول ملفات دولية مهمة، ولكن أيضاً بسبب التحدي الذي تثيره روسيا من خلال سعيها لتحقيق توازن أكبر مع واشنطن في النظام الدولي.

وثمة عدة مؤشرات قوية تشير إلى احتمالات توجه العلاقات الأمريكية الروسية نحو الحرب الباردة، يأتي في مقدمتها، مصادرة الولايات المتحدة بعض المباني الديبلوماسية الروسية في واشنطن، وطرد دبلوماسييها، الأمر الذي أغضب روسيا والتي تفكر في القيام بعمل مماثل من خلال تفكيرها في طرد حوالي 30 دبلوماسياً أمريكياً، ومصادرة مجمعين دبلوماسيين أمريكيين في موسكو وسان بطرسبرج، وفقاً لمصادر دبلوماسية روسية.

وكانت الولايات المتحدة قد صادرت في ديسمبر 2016 مجمعين دبلوماسيين روسيين، وأمر الرئيس الأمريكي في ذلك الوقت باراك أوباما بطرد 35 روسياً بسبب ما وصفه بتورطهم في عمليات اختراق الكتروني للتدخل في حملة انتخابات الرئاسة الأمريكية، ورغم النفي الروسي لتلك الواقعة إلا أنها تسببت في تسميم العلاقات بين واشنطن وموسكو على نحو غير مسبوق.

ثانياً: مع قدوم الإدارة الأمريكية الجديدة التي كان يتوقع أن تتحسن في عهدها ومنذ بداية العلاقات مع روسيا، فقد حدث العكس حيث توترت العلاقات ليس بسبب الخلاف مع روسيا في بعض الملفات فقط، وإنما أيضاً بسبب تفاقم حدة الاتهامات لها بالتدخل في الانتخابات الأمريكية لترجيح كفة ترامب في الانتخابات الرئاسية، مما يشكل تحدياً حقيقياً لأمريكا ولهيبتها في العالم.

ثالثاً: عززت الأحداث التي شهدها العالم العربي في عام 2011 وما تلاها من تطورات سلبية أثرت على كيان الدولة الوطنية، الشعور الروسي والرئيس فلاديمير بوتين في الطموح لإعادة أمجاد موسكو، خاصة بعد أن خسرت العديد من حلفائها ومناطق نفوذها في الشرق الأوسط، وكانت الأزمة الأوكرانية أول اختبار حقيقي لرغبة موسكو في العودة بقوة إلى الساحة الدولية.

ثم جاءت لروسيا الفرصة السانحة للعودة بقوة إلى الشرق الأوسط عبر تدخلها في سوريا، مستغلة تراجع الولايات المتحدة في عهد باراك أوباما، ومثل الانخراط الروسي في سوريا والمتزامن مع تقوية علاقاتها مع حلفاء واشنطن التقليديين في المنطقة بما فيها إسرائيل تحدياً حقيقياً للزعامة الأمريكية للنظام الدولي؛ بل وظهرت روسيا وكأنها الدولة الأكثر تأثيراً في ما يجري من أحداث في منطقة تعتبر محور التوازن في النظام الدولي، إذ تعد الأزمة السورية مفصل محوري لتحديد آفاق التوافق والاختلاف بين أمريكا وروسيا.

وقد ذكر ستيفان دي ميستورا المبعوث الدولي الخاص إلى سوريا في أحد مؤتمراته، أن غياب مشاركة دبلوماسية أمريكية انعكس على النتيجة الضعيفة لعملية السلام في جنيف، وقد أثارت الضربات الأمريكية ضد نظام الأسد بعد استخدام الأسلحة الكيماوية في خان شيخون، الأمل في أن تتحرك الولايات المتحدة من الدور السلبي في الأزمة السورية منذ تولي دونالد ترامب الرئاسة إلى دور أكثر نشاطاً للتوصل إلى حل لإنهاء الأزمة المستمرة في سورية منذ عام 2011.

وانتقد العديد من المسؤولين السابقين وأعضاء الكونجرس الإدارة الأمريكية لعدم وضع استراتيجية بدلاً من القيام بضربة واحدة مع تأثير ضئيل جداً على الحرب في سوريا، حيث تواصل الإدارة فك الارتباط مع آستانة وجنيف، هذا الفراغ الذي تركته الولايات المتحدة ملأته روسيا التي تشجعت بعد تدخلها العسكري في البلاد في سبتمبر 2015.
وما تشهده إدارة ترامب، من التحقيق في التدخل الروسي في الانتخابات، والتهديد اليومي لكوريا الشمالية، بالإضافة إلى خفض ميزانية وزارة الخارجية، يشير إلى الارتباك الواضح بين مؤسسات الحكم في واشنطن.

ووفقاً لمحللين، فإن آسيا – الباسيفيك يمكن أن تكون ساحة يتجدد فيها التنافس الأمريكي – الروسي، بعد أن قامت موسكو بدورها بتطوير استراتيجية موازية للتوجه نحو آسيا، كما أن التقارب الروسي – الصيني ممكن، مقارنة بإمكانية التقارب الأمريكي – الصيني.

وبالفعل، بدأت بوادر التقارب الصيني – الروسي تلوح في الأفق مع اتفاق مقاربة الدولتين للقضايا الدولية.

يذكر أن العلاقات بين الولايات المتحدة وروسيا، تحسنت في مرحلة ما بعد الحرب الباردة بشكل كبير ، وتحولت واقعياً من علاقات صراع وتنافس إلى علاقات تعاون؛ ولكن تميزت هذه الفترة وحتى بداية العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين بتراجع غير مسبوق في قوة ومكانة روسيا في الساحة الدولية، مقابل تحسن في وضعها الاقتصادي، خاصة بعد الانفتاح على الغرب وتعزيز التعاون الاقتصادي والتجاري مع الدول الأوروبية، وكذلك دول وسط وشرق آسيا، وخاصة الصين والهند.

ويبقى القول إن العلاقات بين الولايات المتحدة وروسيا مرشحة نحو التصعيد المحكوم، والذي قد لا يصل إلى حالة الحرب العسكرية، بل يصل مداه إلى حالة الحرب الباردة، بعد أن تمكنت القوى الدولية الكبرى من تجنب نشوب حرب واسعة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، وسعت إلى تحقيق مصالحها بوسائل أخرى، لجأت أحياناً إلى نمط الحرب بالوكالة في مختلف مناطق العالم، كما أصبحت حروب الاقتصاد والتجارة والتكنولوجيا أدوات فاعلة في الصراع الدولي، وهو الأمر المثير للانتباه في علاقات موسكو بواشنطن.