مثل الذبابة التي تلدغ الخيل لتدفعها إلى الحركة, هكذا وصف أفلاطون أستاذه سقراط وحواراته الفلسفية التي تلدغ عقول البشر لتدفعها إلى التفكير والتبصر.

كان أفلاطون يستخدم أسم سقراط بطلاً في تلك الحوارات, حتى أصبح من العسير التمييز بين آراء سقراط الفيلسوف وآراء أفلاطون تلميذ سقراط, وهناك من الفلاسفة من يعتبر شخصية سقراط ليست سوى شخصية أدبية رمزية أبدعتها مخيلة أفلاطون, وفلسفة سقراط في هذه المحاورات تعبر عن سقراط كما يريده أفلاطون, ومما يتلاءم ويتوافق مع فلسفة أفلاطون.

وسقراط هذا الرجل التاريخي الذي عاش في أثينا يعلم تلاميذه الحكمة تحت الشجرة شفويا, ويمشي حافي القدمين, وكان أول ضحايا الفلسفة حين وقف أمام محكمة أثينا وحكمت عليه بالموت بواسطة (سم الشكران) في القرن الرابع قبل الميلاد, بتهمة عدم الإيمان بآلهة الدولة وإفساد عقول الشباب.

لم يستعن سقراط بمحامي للدفاع حيث لم يكن يملك المال الكافي, فكانت براعته في تبيان الحقيقة من خلال ما يملكه من الحكمة والحجج الدامغة هي سلاحه الوحيد للدفاع عن نفسه أمام اللجنة المحلفة التي تتألف من 501 عضو للحكم في القضية المقدمة ضد سقراط.

وسط هذه الإحداث الدرامية يقف المناضل في سبيل الحقيقة والمعرفة كما يصوره تلاميذه أو مخترعيه, فكل تلميذ من تلاميذ سقراط قد طرح شخصية سقراط بصورة مغايرة لمن سبقه, فهو تارة المعلم الغريب الأطوار كما يصوره أرسطوفانيس, وفي المقابل يصوره إكسانوفون كواعظ أخلاقي شعبي ليس إلا, وهناك من جعله شخصية عادية متوسطة الذكاء, وكل تلميذ يصب ما يشاء من الصفات في شخصية أستاذه وكأننا أمام عشرات الشخصيات المتباينة التي تحمل أسم سقراط.

وأمام هذه الصعوبة في تمييز شخصية سقراط وآرائه, أصبحت السنة المتبعة هي الأخذ بأقوال ومحاورات أفلاطون فقط, واعتبار أفلاطون ينقل أراء سقراط حقيقة لا أن يجعله رمزا أدبيا يقول على لسانه أقواله هو نفسه, ومع هذا لا زلنا نجهل حقيقة سقراط ولا زال دارسيه يؤمنون بأن سقراط الأفلاطوني كامل بذاته, وأنه سقراط الوحيد الذي نتمنى معرفته جيدا حتى لو كان متخيلا.

ليس من الممكن الوصول إلى شيء قريب من الصورة الكاملة عن سقراط من كتابات أفلاطون ووفقا للصورة التي يتصورها الأخير عنه, فهي طريقة تفتقر إلى المنهجية حيث لا تضبطها قاعدة أو أصول قد تؤدي بنا إلى نتائج حقيقية.

وأمام هذا التناقض الكبير في طرح وتصوير شخصية سقراط, يتبادر إلى الأذهان السؤال: هل سقراط شخصية تاريخية حقيقية خلفت لنا آثارا مادية مثبتة أو أنه مجرد شخصية أسطورية متخيلة؟

سقراط موجود فقط في الأعمال الأدبية والفلسفية لتلاميذه فقط, ولو افترضنا حقيقته فإنها ضاعت تماما في كومة من الأساطير المنسوجة حوله, حتى صار من المستحيل الوصول إلى صورة موحدة عنه, فمن الصعب الجزم بحقيقة سقراط هل كان فيلسوفا أخلاقيا كما يراه أفلاطون أو واعظا دنيويا كما يراه اكسانوفون, وهناك من تطرف في تجسيد سقراط حتى اعتبره نبيا من الأنبياء.

من الصعب تحديد آرائه لا لأنها غير واضحة فقط, بل لأنها لا تنقل لنا من مباشرة من كتب كتبها هو بل بواسطة تلاميذه وهؤلاء لا شك مزجوها بأنفسهم وصوروها وفقاً لتوجهاتهم الخاصة.