في الأدب الفرنسي استخدمت عبارة مكة لكل ما هو محل جذب وذهول، أما المستشرق في فرنسا، فهو المأخوذ أساسًا بالثقافة الإسلامية، والمستشرقون كانوا من أكثر الأشخاص جاذبية في المجتمع.

ومن المعروف أن حملة نابليون المصرية سعت لفهم دين المسلمين بقدر ما سعت لفك ألغاز لغة الفراعنة على المسلة المنتصبة اليوم وسط ساحة كونكورد بباريس.

فلم يكن الإسلام في فرنسا دائمًا مرتبطًا في الأذهان بأزمات الهجرة أو التطرف أو الإرهاب، ولكن كان العالم الإسلامي مبعثا للإلهام والحلم، وكان يرمز في الأدب إلى شيء من الغرائبية الأخاذة.

بعد أن كان عدد المساجد في فرنسا عام 1970، مئة مسجد فقط، أحصت السلطات أكثر من 2200 مسجد أو مصلى معترف بها في فرنسا عام 2016، تضاف إليها المساجد غير الرسمية، أو نقاط التجمع للصلاة في الشارع.

ويقول رئيس مجلس الديانة الإسلامية وإمام مسجد باريس الكبير دليل بوبكر الذي يمثل التيار الجزائري في ” إسلام فرنسا ” ، إن ” عدد المساجد يمكن أن يتضاعف خلال سنتين “.

واقترح ” بوبكر ” استخدام الكنائس المهجورة لإقامة المسلمين صلواتهم فيها، فهناك مسجد واحد لكل 2500 مسلم تقريبًا، بينما آلاف الكنائس فارغة على مدار السنة.

وتشير تقديرات غير رسمية إلى أن عدد المسلمين في فرنسا يتراوح بين 4 ملايين و7 ملايين. والأرجح أن العدد الحقيقي بحدود 5.5 مليون مسلم، ثلاثة ملايين منهم يمارسون الشعائر. والتحدث عن رقم حقيقي للمسلمين أمر بغاية الصعوبة، لأن القانون الفرنسي يمنع بتاتاً أي إحصاء على أساس ديني أو عرقي.

أكبر مسجد في فرنسا اليوم هو مسجد ضاحية إيفري قرب باريس، وهي الضاحية التي تضم أيضاً، وللمفارقة، أحدث كاتدرائية افتتحت في فرنسا عام ١٩٩٥ والوحيدة التي بنيت في القرن العشرين، وهو القرن الذي شهد وصول معظم المسلمين إلى فرنسا. والكنيسة غالباً ما تصنف كاتدرائية بسبب ضخامتها، لكن هذا مفهوم خاطئ، فالكاتدرائية هي مركز الأسقف أياً كان حجمها، وأصل الكلمة، ” كاتيدرا “، أي الكرسي.

أما أقدم مسجد فرنسي معروف فهو مسجد ” نور الإسلام ” الذي بني في مدينة سان دوني التابعة لجزيرة ريونيون خلف البحار عام 1905، وهي للمفارقة أيضاً السنة التي تبنت فيها فرنسا بعد عقود من الصراع السياسي، قانون فصل الكنيسة عن الدولة، أو قانون العلمانية بشكلها الفرنسي الحاد الذي نعرفه اليوم.

ويذكر في هذا السياق أن مقاطعتي ” ألزاس ” و ” موزيل ” لا ينطبق عليهما قانون 1905 لأنهما كانتا تحت سيادة ألمانيا حين صدور القانون، ما يشكل مفارقة غريبة في الديمقراطية الفرنسية.

بالعودة إلى المساجد، هناك مساجد قديمة جداً في مايوت، إلا أن تلك الجزيرة الواقعة في المحيط الهندي هي بالنسبة للجامعة العربية أرض عربية تابعة لجزر القمر.

لكن المسجد الأشهر فهو من دون شك مسجد باريس الكبير. بنته الجمهورية الفرنسية العلمانية كصرح لتخليد ذكرى مئة ألف جندي مسلم قتلوا تحت راية فرنسا في الحرب العالمية الأولى، وبرعاية ودعم من سلطان المغرب حينها مولاي يوسف الذي حضر افتتاح المسجد في 1926.
ويضم المسجد رياضاً وحماماً. وقد منحت فرنسا في عهد جاك شيراك السيطرة على المسجد للجزائريين، حاسمة لصالح هؤلاء معركة رمزية على زعامة إسلام فرنسا من خلال المسجد. الأرجح أن الدولة أرادت استرضاء شارع جزائري غاضب ومعزول على حساب الشارع المغربي المهادن والمندمج.

القصة الأغرب في عالم مساجد فرنسا، هي قصة ذلك المسجد الذي يقال إنه بني في منطقة بوزانسي في القرن الثاني عشر. وهناك رسائل تاريخية تخبر قصة الصرح الذي بناه الفارس النبيل بيار دانغلور Pierre d’Anglure، وكان من أرفع أسياد منطقة شامبانيا.

” دانغلور ” كان من المشاركين في الحروب الصليبية، وكان نبيلاً حقيقياً وليس من فئة الفرسان الذين أرادوا الارتقاء في المقام والثروة من خلال حملات استعادة قبر المسيح، ولا من فئة المجرمين الذين أرادوا أن يكفروا عن ذنوبهم من خلال رفع راية الصليب في الحرب المقدسة.
وقع ” دانغلور ” في الأسر لدى المسلمين واقتيد إلى صلاح الدين الأيوبي. ورغم الحرب والعداوة، كان الصليبيون النبلاء معجبين بشهامة صلاح الدين، وهو من جهته كان معجباً بقيم النبالة الأوروبية. وبعد أن تلقى حسن معاملة لدى المسلمين، طلب ” دانغلور ” من صلاح الدين إطلاق سراحه واعداً بالعودة لتسليم قائد المسلمين فدية حريته. وافق صلاح الدين ليؤكد لأعدائه تمسكه بقوة الوعد والكلمة.

وعاد ” دانغلور ” إلى شامبانيا، وباع جزءً من ميراثه وحمل مال الفدية وتوجه إلى الأراضي المقدسة مجدداً كما وعد صلاح الدين، وخلال الرحلة، تعرض لهجمات قطاع الطرق وخاض معارك شرسة خسر خلالها عينه، إلا أنه وصل إلى صلاح الدين في النهاية وسلمه الفدية. أعجب صلاح الدين بصدق ” دانغلور ” فأعاد له المال واشترط عليه أمرين: أن يعود لبلاده ويبني مسجداً لعبادة الله وإكرام رسوله، وأن يعلي الهلال في راية أسرته.

فعلاً رجع ” دانغلور ” وبنى المسجد وبات رمز أسرته النبيلة يتضمن الهلال. لم يصلّ أحد على الأرجح في هذا المسجد الذي لا أثر مؤكداً له، لكنه المسجد الذي يعتبره كثيرون الأقدم في فرنسا، ولو أن كثيرين من جهة أخرى يشككون في صحة الرواية من أساسها.