مشاهد من حياة الملك المؤسس عبد العزيز آل سعود موحد المملكة أبرزها حوار صحفي نادر أجراه معه صحفي مصري يدعى محمد شفيق أفندي – آنذاك- ،حيث التقى به هناك في الرياض قادماً من الحجاز، بعد رحلة طويلة مرّ بها في الجوف و حائل و بريدة و عنيزة، وغيرها من مناطق المملكة ما بين عامي 1342 و1346هـ، أي قبل نحو 90 عاماً.

وذهب الصحفي محمد شفيق أفندي في وصف الملك عبدالعزيز، بأنه رجلٌ طويل القامة، ممتلئ الجسد، نحاسي اللون، براق العين، سمح المحيا يضع على عينيه نظارة، وتبدو عليه مخايل الذكاء المفرط، وقوة الإرادة، وشدة العزم مع سماحة الخلق، وتدبر في كل ما يخرج من فمه من كلام. وكان يناهز الخمسين عاماً من عمره.

ولاحظ شفيق، أن إبهام الملك عبدالعزيز، في يده اليسرى، مصاب في إحدى المعارك، برصاصة أثناء الحرب، تركت أثراً ظاهراً فيه، مبيناً أن الملك إذا سار خفض رأسه إلى الأرض، ولبس عباءة نجدية مزخرفة (البشت)، الذي لا يزال يلبس في الوقت الحالي، كما أنه يرفع طرف بشته تحت إبطه كثيراً، ولا يسرع في مشيه، إضافةً إلى أنه محبوب من شعبه لا يتوجس خيفة شر من أحد، فلا يهتم كثيرا بملازمة الحرس إياه.

وتحدث شفيق، عن يوم من أيام الملك عبدالعزيز الذي صادف الجمعة: ” جرت العادة بعد صلاة الجمعة، أن يجلس الملك ونائبه في ردهة القصر الملكي ويستقبل المصلين، فيمر بهم الساقي بالشاهي ثم بالقهوة النجدية ومن ثم يطوف بالحاضرين رجلان يحملان مبخرة يتضوع منها المسك “.

وأشار إلى أن القصر الملكي مشيد على نمط عربي صرف، تقوم في وسطه أعمدة من الجبس الأبيض الناصع ذات نقوش عربية تستوقف الأنظار دقتها وجمالها.

ويتكون القصر من طابقين، الأول فيه قاعة المائدة الخاصة بضيوف الملك، وكذلك قاعات طعام خاصة لعامة الناس. ويستطرد في وصف القصر: ” في الطابق الأعلى، ردهات كبيرة، وبهو يتسع لنحو ثلاثمائة شخص، وخصص جناح للديوان الملكي يشمل مكتبة الملك الخاصة وديوان الأمير سعود وغرفاً خاصة لسكن كبار موظفي القصر، وطبيب الملك، ويلاصق المبنى بناء آخر كبير خاص بالحرم والنساء “.

وسرد شفيق، عن رحلة وصوله إلى الرياض، وذلك بعد وصول الملك عبدالعزيز، بأربعة أيام قادماً من الحجاز، بعد أن غاب عن الرياض، نحو ثلاث سنوات قضاها في الحجاز بعد انتصاره في الحرب هناك.

وكانت الأفراح تعم الرياض وقد غصت بالوفود من أطراف البلاد للترحيب بمقدم الملك بعد غيابه الطويل.

وقال شفيق إنه ” دعي لحفلة إعلان المناداة بجلالة الملك عبدالعزيز ملكاً على نجد بعد أن كان سلطاناً، وقد فاضت ألسنة الشعراء والخطباء ببيان صفات مليكهم وما أحرزه من فخر النصر في الحجاز “.

وعن حياة الملك اليومية قال شفيق ” إنه ينهض قبل انبثاق الفجر دون أن يلزم أحداً من خاصته بالنهوض في ذلك الوقت، ويتوضأ ويتلو القرآن، ويؤذن المؤذن لصلاة الفجر، حيث يتوجه الملك لمسجد القصر ويؤدي الصلاة هناك. ويعود الملك إلى ديوانه، ويتناول الفطور مع من يكون حاضراً من أبنائه وأفراد أسرته “.

ينتقل الملك عبدالعزيز صباحاً مع طلوع الشمس إلى مكتبه الخاص في ديوانه فيأخذ في مطالعة الرسائل واستعراض القضايا وبحثها، ويبدي رأيه مكتوباً، ويظل كذلك بعد الشروق بساعة، لينتقل بعدها للمجلس في الديوان، ويستقبل من لهم شأن به، ويستمع لهم وقتاً غير قليل. ومن يشاهد الملك عبدالعزيز مع البدو حوله يجده واحدا منهم، ويخاطبونه بقولهم: ” يا عبدالعزيز دون ألقاب أو خوف ووجل ” .

يدخل الملك عبدالعزيز -عند الضحى- إلى قاعة تعرف باسم المجلس الكبير، حيث يجتمع أمراء الأسر من مختلف المناطق، وهناك يستعرض الملك الشؤون العامة ويتحدث في كل المجالات ويناقش الأوضاع.

وروى شفيق أن الملك عبدالعزيز دعاه لهذا المجلس وقد لفت نظره جريدة سورية تقول إن ” السيد عبدالله بن عايد ترك الحجاز وحشد جيشا يريد مقاتلة الملك عبدالعزيز، وكانت المصادفة أن عبدالله بن عايد في مجلس الملك في نفس الوقت. فلما قرأت هذا ابتسمت للملك عبدالعزيز. وقلت له (وما آفة الأخبار إلا رواتها)، فلا يصح يا صاحب الجلالة أن تكون مثل هذه الرواية المكذوبة دليلاً قائما على أن الصحف سواسية في هذا الباب “.

وأردف شفيق أفندي : ” بعد أن ينفض المجلس قبيل الغروب، يذهب الملك للقصر الخاص الذي يقيم فيه والده الشيخ، وهو رغم كونه في العقد التاسع من عمره على جانب عظيم من الذكاء وسرعة البديهة ورقة الجانب، فضلا عن كونه محبوباً من سائر أهل نجد، وبعد أن يقضي الملك عبدالعزيز جانباً في حضرة والده، ينتقل إلى زيارة شقيقته نورة التي يجلها “.

وبعد صلاة العشاء، اعتاد الملك عبدالعزيز أن يطوف بموظفي ديوانه، ويستطلع ما لديهم من أعمال، ويزودهم بما يحضر لديه من أفكار وآراء.

ومَثُلَ شفيق بين يدي الملك عبدالعزيز وروى : ” هنأني بسلامة الوصول وطفق يسألني باهتمام بالغ عما شاهدته أثناء سفري الطويل والشاق فكان يبتسم ابتسامات الإعجاب كلما أجبته على سؤال “.
وبدأ الملك عبدالعزيز حديثه ” ليس عندنا سوى دين واحد ومذهب واحد والجميع يؤدون الصلاة خلف إمام واحد، وهذا ما نشكر الله سبحانه وتعالى عليه. نعم المذاهب أربعة. ولا نجد عندنا إلا ما يقوله المسلم لأخيه المسلم السلام عليكم، وهم مرتبطون جميعا بكلمة التوحيد وعلى هذا الأساس يقوم مُلكنا، والحمد لله “.

واستطرد الملك عبدالعزيز في حديثه: ” نحن لا نبغي الملك لذاته، فالملك لله الواحد القهار، فوالله وبالله لو أعطينا ممالك الأرض طرا، وأحسسنا أن ببعضها شركاً، لبعدنا عنها بعد السماء عن الأرض “.

وعرج الملك عبدالعزيز في الحديث عن معركة الحجاز التي دخلت الحجاز ضمن الحكم السعودي، وما أبداه الشعب من تفانٍ وبسالة في رفع راية مليكه.

وسأل شفيق الملك عبدالعزيز ” هل تتنازلون جلالتكم ببيان الأسباب المباشرة لقيام الحرب الحجازية الأخيرة؟ “.

فأجاب ” نعم .. وإني أقسم لك أني ما كنت أبغى الحرب معهم، لولا أن الشريف حسين هو الذي ألجأنا إلى قتاله بما ارتكبته عصابته في السنوات الأخيرة من سوء معاملة الحجاج ليس النجديين فقط، بل سواهم من أمم الإسلام وقد صبرنا عليه صبرا جميلا وفوضنا أمرنا لله تعالى فما ازدادوا إلا بغيا وعدونا واضطررنا في نهاية صبرنا إلى تسيير جيشنا إلى الحجاز، وإذا سمعت مني كلمة جيش فليس ذلك الجيش إلا البدو البواسل الذين تشاهدهم هنا حولك “.

وسأل شفيق الملك عبدالعزيز ماذا أبدلتم من نظام الحكم في الحجاز، فرد أن النظام الأساسي لحكومته لم يتغير: ” فأبقينا كبار الموظفين الذين عهدنا فيهم الصدق والإخلاص لنا فقط أبدلنا القوانين التي شرعها الشريف باتباع حكم الشرع، كما هو الحال في نجد، وقد استقبل الناس ما شرعناه لهم بمزيد من الابتهاج والرضى وقد كان لهذا أثره في استتباب الأمن في الحجاز، كما سوف ترى عندما تزورها “.