يستقبل المسلمون بعد ساعات قليلة في كافة أنحاء العالم عامًا هجريًا جديدًا يحمل رقم 1439 في عمر التقويم الهجري، كما يحمل ذكرى عطرة للمسلمين، وصاحب الذكرى هو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، الذي استحكم به وبأصحابه ظلم و تنكيل كفار قريش فهاجر مرغمًا من بلد وصفها بأنها ” أحب أرض الله إليه ” ، إلى المدينة التي غدت بمقدمه المدينة المنورة.

تغير موقع الرسالة دون أن يتغير الموقف تحت راية التوحيد، وفي المدينة المنورة تأسست أركان الدولة الإسلامية، وبعد أن قويت شوكتها واكتسب أصحابها عزمًا شديدًا، عاد محمد وأصحابه إلى مكة مرة أخرى فاتحًا وقائدًا منتصرًا، وتحمل تلك الذكرى دروسًا وعبر نتعلم منها أن الحق لابد له من وطن يحميه، وأبناء يتكاتفون لرفع رايته، وأن الرافض لهذا الحق يتربص به الأعداء ويحيق به المكائد، ويعلو عليه سلاح الإرهاب والعنف، وعندئذ يحتاج الحق لأبناء يدينون بالولاء له ويقدسون ترابه ليدافعوا عنه.

انقضاء عام هجري، واستقبال أخر جديد يذكرنا بحبل الرجاء في أن يكون عامًا جديرًا بالمسلمين في عطائهم وأعمالهم، عامًا يقوم فيه كل عامل بعمله، وتكون هجرة المسلمين فيه هجرة روحية يجتمعوا فيها على محبة رسول الله، يتحلوا بمكارم الأخلاق، يهجروا الكسل إلى العمل، واليأس للأمل، والتفرق للوحدة، والخيانة للأمانة، والرياء إلى الإخلاص.

عام جديد يبدأ كعادة الأعوام الهجرية بشهر المحرم الذي يحمل ذكرى هجرة الرسول (صلى الله عليه وسلم) من مكة إلى المدينة، ويضم ١٢ شهرا من بينها أربعة حُرم، والأشهر الهجرية هي (محرم – صفر – ربيع الأول – ربيع ثان – جمادي الأول – جمادى ثان – رجب – شعبان – رمضان – شوال – ذو القعدة – ذو الحجة).

وسمى شهر المحرم وهو من الأشهر الحرم، بهذا الاسم لأن العرب كان يحرمون فيه القتال، فيما جاءت تسمية صفر لما كان تخلو فيه البيوت من أهلها للحرب، وجاءت تسمية ربيع الأول نسبة للربيع الذي تزامن مع تسمية هذا الشهر، فيما سمى ربيع الثاني بذلك لأن العرب كانوا يجمعون فيه العشب لرعيهم، وسمي جماد الأول لوقوعه في الشتاء وقت التسمية حيث يجمد الماء، فيما لزم اسم جماد الثاني لهذا الشهر لأنه جاء في الشتاء أيضا.

وسمي شهر رجب وترتيبه السابع في الأشهر الهجرية -وهو من الأشهر الحرم- بهذا الاسم لأن العرب كانوا يعظمونه بترك القتال، أما شعبان الواقع بين رجب ورمضان فقد قيل في اسمه أنه نسبة إلى تشعب القبائل طلبًا للماء، وشهر الصوم للمسلمين هو رمضان الذي سمي بهذا الاسم نتيجة اشتداد الحر، أما شوال ففيه تلقح النوق، وذو القعدة هو من الأشهر الحرم وسمي بذلك لقعود العرب فيه عن القتال والترحال، أما ذو الحجة وهو أيضا من الأشهر الحرم ففيه موسم الحج وعيد الأضحى.

وفضل الله بعض الأشهر على بعض بالصيام والإكثار من أعمال الخير، ففي شهر المحرم تقع ذكرى عاشوراء ، ويحفل شهر ربيع الأول بميلاد الرسول الكريم وفيه يستحب صيام يوم الاثنين، ويستمد شهر رجب مكانته بين الأشهر المباركة الحرم من حادثة الإسراء والمعراج والتي كانت من أعظم مظاهر تكريم النبي وفيها فرضت الصلاة على الأمة الإسلامية، ويستحب في هذا الشهر أداء العمرة والإكثار من النوافل مثل صيام التطوع وكثرة الذكر وقيام الليل والتصدق.

أما شهر شعبان فيستحب فيه الصيام استعدادا لشهر رمضان وفيه ليلة النصف من شعبان التي تحولت فيها القبلة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام، واختص الله شهر رمضان بكثير من الفضائل ويستحب فيه الإخلاص في العبادة والدعاء والصيام والقيام والصدقة والاجتهاد في قراءة القرآن والاعتكاف في المسجد والعمرة والإكثار من الذكر والاستغفار وفيه ليلة القدر خير من ألف شهر.

وشوال وهو من الأشهر المباركة التي تبدأ بعيد الفطر، ويستحب فيه اللبس الجديد والاغتسال والتطيب وزيارة الأقارب والجيران وصيام ستة أيام (الستة البيض)، أما شهر ذو القعدة فيستحب فيه أعمال البر والمداومة على الذكر، وفي شهر ذو الحجة (وهو شهر الحج الأعظم) ففيه المغفرة والذكر والتلبية والنحر وأداء الركن الخامس من أركان الإسلام، وفيه يوم عرفه الذي يعتق فيه الله من النار أكثر ما يعتق طوال العام.

ويعد التقويم الهجري أحد التقاويم التسعة التي تتخذها الشعوب حول العالم منذ القدم، وهي التقويم المصري (القبطي)، الميلادي (الجريجورى)، العبري، السرياني، الروماني، الفارسي، الإغريقي، البابلي، والهجري، ورغم اختلاف هذه التقاويم في خصائص دقيقة عن بعضها البعض، إلا أنه يمكن إجمالها عمومًا في نوعين رئيسين أحداهما شمسي أساسه دوران الأرض حول الشمس، والأخر قمري (مثل التقويم الهجري) أساسه دوران القمر حول الأرض .

ونظام التقويم الهجري يُعتمد على الشهر القمري الذي يستغرقها القمر في دورة كاملة حول الأرض، حيث تقاس هذه المدة عادة بين محاق إلى محاق تالي أو من استقبال أو استقبال بعده، وتُعد رؤية الهلال الجديد من أصعب الأرصاد الفلكية قاطبة حيث يولد هلال الشهر القمري الجديد بعد فترة من حدوث الاقتران تتراوح بين (من 6 إلى 16 ساعة)، وبذلك يكون موضعه على صفحة السماء بالقرب من قرص الشمس، التي قد تطمسه كما تطمس النجوم نهارا، فيستحيل رؤيته في هذه الحالة ولهذا ينتظر المتخصصون حتى تغرب الشمس للبحث عن الهلال الجديد إذا كان موجودا لفترة زمنية كافية لتتبعه ورصده قبل غروبه يوم 29 من الشهر القمري والمعروف (بيوم الرؤية).

وكان العرب قبل الإسلام يستخدمون تقاويم مختلفة ترتبط بأحداث مهمة يؤرخونها بالنسبة للعام الذي بني فيه الكعبة (عام 1855 قبل الميلاد)، ولما أصبح هذا التاريخ موغلا في القدم أخذوا يؤرخون بحادث انهيار سد مأرب في اليمن (120 قبل الميلاد)، ثم أخذوا يؤرخون الحوادث بعام الفيل (571 ميلاديا)، وقبل ظهور الإسلام بفترة قصيرة أخذوا يؤرخون بعام تجديد الكعبة (605 ميلاديا)، وكانت كل هذه التقاويم مبنية على حركة القمر الشهرية.

كما اشتهر قوم من بني كنانة في مسألة نسئ (كبس الشهور) لكي تتوافق السنة القمرية مع الشمسية وتتوافق الشهور والفصول بينهم، وأسماء الأشهر العربية المتداولة حاليا هي نفس الأسماء التي كان يستخدمها العرب في العصر الجاهلي، فقد سمي العرب بالتسمية الحالية في عهد كلاب بن مرة الجد الخامس للنبي محمد (صلى الله عليه وسلم) حوالي عام 412 ميلاديا.

ومنذ فجر الإسلام وبعد هجرة الرسول من مكة إلى المدينة، بدأ المسلمون الأوائل يؤرخون حوادثهم بشكل أخر، فقد سموا السنة الأولى للهجرة بسنة الإذن (الإذن بالهجرة)، والسنة الثانية بسنة الأمر (أي الأمر بالقتال)، والثالثة التمحيص، والرابعة الترفئة، والخامسة الزلزال، والسنة السادسة بالاستئناس، والسنة السابعة بالاستقلاب والثامنة بالاستواء، والتاسعة بالبراءة، والعاشرة بالوداع (أي سنة حجة الوداع الأخيرة للرسول وفيها نزلت آيتان كريمتان حددتا نظام التقويم وحرمت الكبس والنسئ.

ومنذ ذلك الوقت اعتبرت السنة الهجرية 12 شهرًا، واتخذ شهر محرم الحرام ليكون بدايتها، وفي السنة السابعة عشرة للهجرة كتب الخليفة الثاني عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري عامله على البصرة، وذكر فيها شهر شعبان غير مؤرخ للعام، فلم يدري الأشعري أهو شعبان الذي هم فيه أم الماضي.

فجمع الخليفة الصحابة وأخبرهم بالأمر موضحا حتمية وضع تاريخ يؤرخ به المسلمون، فأخذوا في البحث عن واقعة تكون مبدأ للتاريخ المقترح، فلم يختاروا مولد الرسول ولا بعثته لعدم تأكدهم من وقت حدوثهما، ولا وقت وفاته لأنها مناسبة محزنة، واختاروا وقت الهجرة، لأنها فرقت بين الحق والباطل، كما أنها حادث واضح وخالي من التعقيد.