حين لاحظ الكاتب البريطاني سيمون هيفر, مؤلف كتاب (Strictly English: The Correct Way to Write… And Why It Matters) تفشي اللحن النحوي وشيوع الأخطاء اللغوية بين زملائه الصحفيين في صحيفة التيلجراف, بزغت في عقله فكرة تأليف كتابه الأكثر شيوعاً (Strictly English).

تناول الكتاب الأخطاء الشائعة بين الكُتاب والصحفيين وحتى تلك الأخطاء اللغوية المنتشرة بين عامة الناس. ورغبته كانت منصبة على تحقيق الدقة والوضوح في الكتابة إضافة لتحقيق الغرض الأهم وهو الحفاظ على الشكل الأكثر نقاء للغة الإنجليزية بشكلها المعياري الذي يمثل الهوية البريطانية المتوارثة من عصر ويليام شكسبير حتى مطلع القرن العشرين.

حمل سيمون هيفر مسؤولية الحفاظ على اللغة, وراوده هاجس فقدان الهوية المرتبط باللغة الأم, تلك اللغة التي تحدث بها جون ميلتون وتشارلز ديكنز وفرجينيا وولف وجين أوستن وجورج أورويل, اللغة التي نقلت للعالم قاطبة روائع الأدب الإنساني, من خلال المجتمع الإنجليزي في مختلف العصور.

تلك الأهداف والدافع التي حملها سيمون هيفر هي ذاتها الأهداف والدوافع التي حملها أبو العباس محمد بن يزيد المبرد, أحد أشهر علماء اللغة العرب, في كتابه الشهير (الكامل في اللغة والأدب) الذي يعد أحد أعمدة الأدب العربي, وشاهدا على حياة العرب وأخبارهم.

كان كتاب الكامل ميدانا برزت فيه معالم العادات والتقاليد العربية من أيام العصر الجاهلي حتى عصر المبرد. وقد حوى نماذجا عديدة من خطب العرب وأشعارهم, ويتخللها بطبيعة الحال معالجة الكثير من الموضوعات النحوية عن طريق تناول موضوع بعينه أو عن طريق الإعراب, وأما الإعراب فهو واضح وجلي في أكثر صفحات الكتاب.

فقد كان المبرد يكثر من القضايا اللغوية درسا وتناولا ويشرح كل نص يأتي به, وفي شرحه كان يتحرى الدقة والعمق وإظهار حسن الكلام وقبيحه بحيث تبدو الصفة اللغوية للكتاب ماثلة في ذهن القارئ من أول الكتاب إلى أخره.

والعين لا تخطئ غيرة المبرد الشديدة على قوميته العربية, التي جعلته يوظف كتابه لتصوير حياة العرب ومعتقداتهم وأساطيرهم وما يتداول في حياتهم من أمثال وأقوال مأثورة تعكس دهاء العرب وشجاعتهم وحلمهم وكرمهم ونوادرهم, وهجاء العرب بعضهم البعض, وعشنا أيضا معارك العرب وأساليبهم في المدح والفخر والغزل, نتعرف إلى العقائد والأفكار بجانب الملح والنوادر.

والملاحظ في الكتاب أنه يكاد يخلو من أي ثقافات أجنبية بعيدا عن ثقافة العرب ومزاجهم الفكري والإجتماعي, مع أن المبرد عاش عصرا بدأ العرب فيه يتعرفون على ثقافات أخرى أجنبية كالثقافة اليونانية والهندية والفارسية.

كتاب الكامل حاله كحال البيان والتبيين للجاحظ, يمثلان مرحلة من مراحل اللغة العربية وآدابها, حملت دوافع ورغبات اللغويين والأدباء العرب في مواجهة الثقافات الدخيلة والتحديات الجديدة, عن طريق التقعيد لخصائص مميزة للأدب العربي قبل أن يتأثر بالآداب الأجنبية.

لكتاب الكامل أبعادا ثقافية وحضارية واجتماعية, طرحها المبرد في قالب أدبي يسبر أغوار الروح العربية, مؤكدا بأن الأدب هو روح الأمة ومرآة المجتمع والمعبر الأهم عن مزاج الأمم وطريقة تفكيرها الجماعي, ولذلك حرصت كل الأمم والشعوب في مختلف العصور وفي شتى بقاع الدنيا على الحفاظ على لغتها وآدابها من الضياع في دوامة التاريخ وحركته التي لا تهدأ.