يقول طه حسين في أحد عباراته الشهيرة: “إن اللغة العربية ليست ملكاً لرجال الدين, ولكنها ملك للذين يتكلمونها جميعاً من الأمم والأجيال”.

 لم تكن هذه اللغة العربية الفصيحة ملكاً لرجال الدين في يوم من الأيام كما يعتقد طه حسين, ولا يمكن وصفها بلهجة قبيلة بعينها, وإنما هي خليط من عدة لهجات عربية نشأت بفعل عوامل وأسباب عديدة, قبل البعثة النبوية وقبل أن يكون هناك رجال دين.

قال الفراء: “كانت العرب تحضر الموسم كل عام وتحج البيت في الجاهلية وقريش يسمعون لغات العرب, فما استحسنوه من لغاتهم تكلموا به, فصاروا أفصح العرب وخلت لغتهم من مستبشع اللغات ومستقبح الألفاظ”.

نستنتج من قول الفراء أن اللسان العربي تكون بعد رحلة طويلة من الاختبار والتنقيح, فكان هم الإنسان العربي منصبا على لغته التي يتحدث بها ولا يملك غيرها من المعارف الإنسانية, فقام يتفحصها وينتقي منها أعذب الألفاظ واختار أجزل ما جادت به ألسنة العرب قاطبة, فصقل منها جملا بارعة في وصفها وشعراَ موزونا وخطابا قويا بليغا في معناه.

استمرت اللغة العربية ملكا لكل الناطقين بها من عرب وعجم, ومن خاصة وعامة, فقد فتحت العربية أبوابها لرجال الدين ورجال الفلسفة والمتكلمين, ونزل القرآن الكريم بلسان هذا الإنسان العربي البسيط متحديا له في قوة البيان وجزالة اللفظ, فقد كانت فصاحته على نهج معجز لكل فصحاء العرب, في عصر تألقت فيه ملكة البيان في أكمل صورها, لدى قوم لم يعرفوا من صنائع الدنيا سوى صنعة البيان, ولم يبرعوا في فنون الحياة براعتهم في قول الشعر والنثر.

وفي محاولة لكبح جماح التطور اللغوي, بعد أن تبدلت الأوضاع الاجتماعية وتغيرت التركيبة السكانية, ولم يعد العربي يعيش عزلته المعهودة التي ضمنت له نقاء لغته وصفائها من الدخيل, قرر أن يصنع لها المعايير اللغوية التي تضمن للغته البقاء ومقاومة كل عوامل التغير والتبدل, فمرت اللغة العربية بمرحلة طويلة لإرساء دعائم النحو لحمايتها من تأثير الأجنبي والدخيل.

من حملوا على عاتقهم مسؤولية تقعيد اللغة وتأسيس نموذج معياري لها, لم يكونوا من رجال الدين, فسيبويه والخليل والكسائي والمبرد لم يقدموا أنفسهم يوماً بصفتهم (رجال دين) كما يعتقد عميد الأدب العربي طه حسين.

بداية من أبي الأسود الدؤلي مروراً بالعصر الأموي ثم العباسي إضافة للعصر الأندلسي, لم نجد اعتراضا على الصيغة المعيارية للغة العربية والتي أخذت صورتها النهائية مع اللغوي الشهير سيبويه وكتابه الخالد, واستمرت هذه اللغة المعيارية ملكاً للأدباء والشعراء وأرباب الفلسفة وأهل الحديث ودارسي الفقه, ولم تكن حكرا على فرد بعينه أو طائفة بعينها.

درس اللغويون العرب اللغة وصفيا, جنبا إلى جنب مع دراستهم المعيارية, وسار المنهج الوصفي والمعياري في طريق واحد دون أن يصطدما أو يتعارضا, بل أن سيبويه نفسه لم تقتصر دراسته على الجانب المعياري دون الوصفي حيث جمع بين المنهجين ولم يجد أي تضارب بينهما.

إذن, من أين جاء الصراع بين المنهج المعياري (Prescriptive) والمنهج الوصفي (Descriptive)؟ وكيف أفتعل صراعا وهميا بينهما بشأن اللغة العربية؟

نعلم جيداً بأن الناطقين باللغة الإنجليزية لديهم صراعات أزلية قديمة, ما بين صراع من أجل الاستقلال أو صراع من أجل فرض الثقافة والهيمنة العسكرية والسياسية في زمن الاستعمار الإمبريالي.

يعتقد الناطقون بالإنجليزية البريطانية, أنهم هم أهل اللغة الأصليين, ولغتهم (لغة شكسبير)هي اللغة المعيار, في حين يرى الناطقون باللغة الإنجليزية الأمريكية عكس ذلك, وفي خضم الصراع البريطاني الأمريكي لفرض اللغة أو فك ارتباط اللغة بأخرى, نشأت مشكلة النزاع بين المعيارية والوصفية.

الجميع يقر بأن اللغة العربية هي لغة القرآن الكريم والسنة النبوية وأجمل الأعمال الأدبية والشعرية في تاريخ العرب كتبت باللغة العربية بداية من شعر المعلقات مرورا بالأدب الأندلسي ونهاية بالأدب العربي الحديث, وكل التراث اللغوي والأدبي والديني الضخم مكتوب باللغة العربية, وكل مسلم عربي أو غير عربي لديه انتماء وارتباط تاريخي ولغوي وديني وثقافي بهذا الإرث الضخم سيقبل طواعية باللغة العربية الفصحى بشكلها المعياري وقواعدها وتركيبها اللغوي, بعكس المواطن الأمريكي الذي لا يملك أي ارتباط أو انتماء لبريطانيا الأم وهويتها بل هو يسعى جاهدا للفكاك من هذا الهوية بأي طريقة كانت لذلك هو لا يؤمن بهذه المعايير اللغوية ولا يريدها أن تفرض عليه.

في القرن العشرين أقحم بعض اللغويين العرب أزمة (المعيارية والوصفية) في نسيج المجتمع العربي, واستيراد هذه القضية الأجنبية وتوظيفها بكل سذاجة في المجتمع العربي يؤكد أن بعض اللغويين العرب لديهم تبعية ثقافية, وهذا يفسر التخبط اللغوي الذي تعيشه الجامعات والمدارس العربية في تعاطيها مع الظاهرة اللغوية.

مشكلة بعض اللغويين العرب أنهم رغبوا في تصدير المشكلة اللغوية الأجنبية واستزراعها في التربة العربية, ومعاملة المشكلة اللغوية الأمريكية على سبيل المثال لا الحصر, وكأنها مشكلة كونية تنطبق على كل الشعوب والثقافات, وهذا يفسر حالة الحيرة وغياب الرؤية التي يعيشها اللغوي العربي أمام التحديات التي تواجه لغته, فلا هو حافظ على لغته في صراعها مع العاميات ولا هو أفلح في توظيف المناهج الأجنبية في صميم لغته وهويته الثقافية.