الولايات المتحدة الأمريكية امتداد للحضارة الأوربية، والأهم من ذلك هو أنها أخذت آخر ما وصلت إليه الحضارة الأوربية، لتنطلق منه نحو حضارة أمريكية قيادية ليس للمصدر الأم (أوروبا) بل للعالم أجمع.

وكانت البداية مع حركة الكشوف الأوروبية والهجرات المتتالية من أوربا إلى العالم الجديد، وعمليات التصفية للبشر أصحاب الأرض من الهنود الحمر.

ومع انتشار حركة الاستعمار الأوربي إلى العالم الجديد، انتقلت الصراعات الأوروبية إلى هذا العالم، وتفوقت إنجلترا في صراعها مع بقية الأمم الأوربية حتى حازت على الغالبية العظمى من أمريكا الشمالية.

وفي هذا العالم الجديد، تكونت أمة هجينة ذات ثقافات متعددة، صهرت في ثقافة هي مزيج من الصفات الإنجليزية والأوربية، وهذه الثقافة الوليدة تكيفت وفق الأحوال والظروف في تلك الأرض الجديدة.

كان البرلمان الإنجليزي له السلطة العليا في مجال التشريع في مستعمرته الجديدة، بعد أن تفرد في السيطرة عليها، شأنها شأن بقية الممتلكات البريطانية.

وبعد ذلك تولدت لدى الأمريكيين فكرة الانفصال عن العرش الإنجليزي، وأصبح الأمريكي من بعد وجهاً لوجه مع الدولة الأم المسيطرة (إنجلترا)، حتى تحرر من قبضتها، معلنا بذلك ميلاد دولة جديدة (الولايات المتحدة الأمريكية).

عندما أسس المستوطنون الجدد مسكنهم الدائم في العالم الجديد، جلبوا معهم لغتهم الأم، وهي بالطبع اللسان النبيل النقي، لسان ميلتون وشكسبير، ولكن هذا اللسان الجديد الذي زرع في موطنه الجديد بدأ يكيف ويلائم نفسه بشكل تدريجي تجاه بيئته وظروفه الجديدة.

جيلا بعد جيل زادت الفجوة بين اللسان الأصلي واللسان الأمريكي المتولد عنه، وتعددت الفروق اللغوية بينهما، حتى صار خطرا يتهدد الهوية البريطانية الأصيلة، فلا يوجد ما يؤرق المدافعين عن اللغة الإنجليزية البريطانية اليوم أكثر من الغزو الأمريكي للغتهم.

تعددت أشكال الغزو الأمريكي للهوية البريطانية وعلى رأسها اللغة الإنجليزية، جاعلة الإنجليز في حالة دفاع مستمر عن هويتهم المهددة بالضياع، فهذا التنين الأمريكي وبما يملكه من إمكانيات إعلامية وتقنية وعلمية قادر على ابتلاع ما يقف في طريقه في غمضة عين.

التأثيرات العابرة للمحيطات التي تسللت داخل نسيج المجتمع البريطاني بنعومة متناهية، لفتت أنظار النخبة المثقفة في بريطانيا لتتبع المصطلحات الأمريكية (Americanisms) واختبار مدى أثارها السلبية التي كانت تنذر بإلغاء كثير من المفردات البريطانية واندثارها من الحياة اليومية.

نشأت في بريطانيا حركة مناهضة للغزو الثقافي الأمريكي للمجتمع البريطاني (Anti – Americanisms) فالنخبة البريطانية لم تقبل أن تكون تابعا لهذه الحضارة القادمة من وراء المحيطات، فهي تعتقد بأن اللغة الإنجليزية ملكا لهم، وهم مسؤولون عن حمايتها من (الرطانة البربرية) كما يطلقون على المصطلحات الأمريكية.

رحلة اللغة الإنجليزية عبر البحار وتنقلها من قارة إلى أخرى، شبيه نوعيا برحلة اللغة العربية من جزيرة العرب إلى العالم الجديد (آنذاك) إلى القارة الأوربية. جلب الفاتحون العرب معهم لغتهم الأم، ودخلت لغة أمرئ القيس وجرير والمتنبي وسيبويه والجاحظ والفراهيدي إلى قلب الأندلس، وطافت بين الحدائق الغناء والقصور الخلابة والمدن الأوربية بمختلف ثقافاتها وأديانها.

ظلت اللغة العربية مرتبطة بأصلها المشرقي وهي مغتربة عن ديارها وجذورها، واستمرت تبعيتها للمشرق حتى مع تتابع القرون الطويلة، قدم العرب بلغتهم وجلبوا معهم للعالم الجديد قصائدهم وعلومهم وآدابهم الرفيعة.

طالت إقامة المستوطنين العرب في عالمهم الجديد، وصنعوا حضارة الأندلس، أحد أجمل وأعذب الحضارات التي عرفها التاريخ الإنساني، ولكن هذه الحضارة لم تمثل تهديدا على هوية الأصل المشرقي، وقاومت معهم اللغة العربية كل عوامل التطور مع أنهم يعيشون في عالم جديد بثقافته وطقسه وتضاريسه.

أنجبت الأندلس ابن عبد ربه الأندلسي، أحد مواليد القارة الأوروبية، والمعروف بمؤلفه الضخم (العقد الفريد) الذي يعد أحد أمهات الأدب العربي، فكان كتابه امتدادا لإبداعات الجاحظ والمبرد وإضافة زاخرة لتراث العرب الأدبي، ومع أن هذا العمل الإبداعي قد جاءنا من قارة أوروبا ولكنه أرتبط بثقافة المشرق وتاريخه ولغته وهويته، حتى قال عنه الوزير الصاحب بن عباد حين قرأه: (هذه بضاعتنا ردت إلينا).