لكل أمة لغتها الخاصة, التي تعكس هويتها وثقافتها, وفي وعاء اللغة تتخلق أفكار أفرادها وإبداعاتهم, وما يتولد عن مخيلتهم وعقولهم من هموم مشتركة.

أصبحت اللغة نفيسة عند أهلها والناطقين بها, فقدموا لها الجهد والوقت في سبيل الحفاظ عليها من الضياع والتفتت الحاصل جراء اختلاط الشعوب والثقافات, والمؤدي بدوره لتداخل الألسنة وتبدلها من طور إلى طور آخر.

الناطقون باللغة الإنجليزية, حملوا ذات الهم, وأثقل فكرهم هاجس ضياع اللغة وتسرب المؤثرات الخارجية إلى لسان قومهم. وأغلب الشعوب من مختلف الثقافات حملوا على عاتقهم هم ضياع اللغة, فلم تكن هذه القضية حكرا على العرب أو الإنجليز.

يعتقد الناطقون بالإنجليزية أن لغتهم تنتمي لأسرة اللغات الجرمانية, فمن الناحية التاريخية لغتهم ذات أصول جرمانية, ولكن على المستوى التطبيقي فإن اللغة الإنجليزية تعد خليطا من الجرمانية والرومنسية.

يحتوي معجم الإنجليزية على 29 % من الفرنسية, وعلى 29 % من اللاتينية, أي أنها تحوي ما يقارب 58 % من اللغات الرومنسية, و6% من اليونانية, وما تملكه من مفردات ذات أصل جرماني يعادل 26%, وهذه النسبة الضعيفة من الأصل الجرماني, طرحت تساؤلاً عريضاً: هل اللغة الإنجليزية تصنف ضمن اللغات الجرمانية أم ضمن اللغات الرومنسية, أم هي خليطا من هذه وتلك؟

قامت حركات مناهضة للتأثير الأجنبي على الإنجليزية, وهي حركات سعت لإعادة الإنجليزية لجذورها الأنجلو سكسونية الأولى, وتحت مظلة العودة بالإنجليزية لأصولها أسسوا الطريق للغة افتراضية متخيلة أطلقوا عليها مسمى لغة الآنجلش (Anglish) وهي لغة خالية من أي أثر أجنبي أو وجود لأي مفردة دخيلة.

وهذه اللغة (Anglish) تعد شكلاً من أشكال التطهير اللغوي أو التنقية اللغوية (Linguistic Purism), وهذه الحركة اللغوية سعت لوضع الإجراءات اللازمة لتوسيع نطاق معجم الإنجليزية وتنقيحه من أي كل دخيل عن طريق إحلال الكلمات ذات الأصل الجرماني محل أي كلمة ذات أصل رومنسي.

اعتمدت كلمات جديدة مبنية على أصل جرماني, وتم إحياء الكلمات الجرمانية المهجورة, وتم تأسيس مواقع على شبكات التواصل مهمتها تجميع أكبر قدر ممكن من الكلمات الجرمانية في سبيل تحقيق الأمل المنشود وهو تكوين معجم نقي من الشوائب.

وقد تطرق اللغوية اللغوي البريطاني الشهير ديفيد كريستال لقضية التطهير اللغوي (Linguistic Purism) في موسوعة كامبردج للغة الإنجليزية. وفي القرن التاسع عشر قامت حركة أدبية رفع رايتها أدباء كبار مثل تشارلز ديكنز وتوماس هاردي, وطبيعة هذه الحركة تركزت على توظيف الكلمات الجرمانية في الأدب وإحياء المفردات المهجورة.

وطبعا ونحن نقرأ هذا الكلام, فإن أول ما يطرأ لنا أهم حركة تطهيرية ناضلت لتنقية اللغة العربية من اللحن والاستخدام الرديء للغة وهي الحركة التي تزعمها إمام النحاة سيبويه, صاحب أهم مشروع عرفته البشرية للحفاظ على القواعد الأساسية للغة, وحمايتها من الضياع والاندثار نتيجة التبدلات الاجتماعية والسياسية التي مرت بها الشعوب العربية عبر الحقب المتتالية من الزمن.

ومع أن العربية تواجه التحديات والتهديدات من أطراف عدة, حتى صارت هاجس (ضياع اللغة) يقض مضاجع العرب, ولكن التراث اللغوي الضخم الذي تركه الأسلاف ضمن للعربية البقاء والاستمرار, فلم يزل الفرد العربي في القرن الواحد والعشرين يستوعب الآثار الشعرية المكتوبة في العصر الجاهلي.

ما خلفه العرب -وفي مقدمتهم سيبويه- من أعمال لغوية متعددة شملت كل جوانب اللغة, يعد في جوهره عملية تنقية لغوية (Linguistic Purism) واسعة النطاق ومختلفة الاتجاهات, وهي حركة تعد ناجحة نسبيا بدليل نتائجها الطويلة الأمد, في حين فشلت تجارب شعوب أخرى في الحفاظ على لغتها, فكانت النتيجة المتوقعة هي موت اللغة واندثارها.