يقول البطل الصيني الحقيقي، والرجل الذي كان وراء كل ما يحدث في الصين اليوم دنج شياو بينج: «لا يهم أن يكون القط أبيض أم أسود، طالما هو قادر على اصطياد الفئران» وهي مقولة تؤكد رغبة صانعي القرار الصيني في انتهاج براجماتية اقتصادية تتجاوز مسألة الأيديولوجيات الضيقة في سبيل الانفتاح الواسع على الأسواق العالمية.
ففي فترة وجيزة لا تتجاوز الخمسة عشر عاما نقل دنج بلاده من الفقر والضحالة إلى مصاف الدول الكبرى اقتصاديا، وأخرج الصين الشيوعية من عزلتها وشخصيتها المفتقرة إلى روح المبادرة والمخاطرة ومن نظرتها الاقتصادية التقليدية التي أعاقت تطور المجتمع الصيني لفترة مديدة من الزمن.
رضخت الصين عقودا طويلة تحت وطأة قوة تقليد كبحت تطور المجتمع الصيني وجعلته يخوض صراع حاد في سبيل التحديث والانفتاح على الآخر، وهو أمر ما كان ليحدث لو لم يقتنع الصينيون بمبدأ المنافسة والابتعاد عن الانطواء والتقوقع على الذات اللذين أوصلا الصين إلى مأزق الدوران في دوامة اقتصاد زراعي متخلف غير قادر على الاستمرار ولا يلبي الحاجات الضرورية لشعب عملاق مثل الشعب الصيني.
فقد نجحت الصين في فهم لغة (العولمة) وقررت عدم العودة للوراء أبدا، إذ بعد أن أصبحت قوية باتت مدفوعة لأن تزداد قوة وإلا أن التوقف سيعيدها إلى الصفوف الخلفية، فهي لم تقبل بمقولة نهاية الاشتراكية وانتصار الرأسمالية على المستوى الكوني، فقد ظل صانع القرار الصيني مخلصا للأيديولوجية الشيوعية وفضل منذ البداية الاعتماد على الحزب الشيوعي لتنفيذ سياسته الإصلاحية الاقتصادية، فقد تمكنت الصين من إحداث تحول كبير في علاقات الإنتاج في مجتمع شمولي يحكمه الحزب الشيوعي، ليتحول إلى مجتمع يأخذ بالتطبيقات الرأسمالية في الشؤون الاقتصادية مع بقاء الحزب الشيوعي مهيمناً على المجتمع والدولة.

في تجربة الصين، الممارسة الاقتصادية في صيغتها الليبرالية الغربية ليست هي الحصان الذي يقود عربة النمو الاقتصادي، والأهم أن العربة والحصان هنا ليس بالضرورة يتجهان إلى محطة الممارسة الديمقراطية في نموذجها الغربي، فمن المفيد الوقوف على تجربة الصين الحديثة التي تمثل طريقا ثالثا للتنمية، لمعرفة هل بقي فيها شيء من معالم اقتصاد اشتراكي؟ أم أنها تتبع كليا أو تميل أكثر نحو قوى السوق؟ أم هي خليط من هذا وذاك؟

تمكنت الصين من توسيع قاعدة استثماراتها وتنويع صادراتها التي أصبحت تتميز بقدرة تنافسية عالية من حيث الجودة وانخفاض التكلفة، منتهجة في ذلك منهجا اقتصاديا حرا، فكان انفتاحها على السوق العالمية قد جعل منها قوة اقتصادية عظمى على الرغم من مركزية قرارها السياسي وعدم إيمانها بالديموقراطية.

كانت الرؤية الصينية واضحة منذ البداية، رؤية تعد هجيناً من عدة أيديولوجيات لأنها تضم عناصر من الاشتراكية والرأسمالية معاً، وهنا يكمن جانب مهم من خصوصية تجربة التحديث الصينية التي تقيم نظاماً فريداً من نوعه لا مثيل له، فلم ترغب الصين أن تتحول لتكون ديمقراطية رأسمالية أو تستمر كدولة اشتراكية بالمعنى التقليدي، وهنا يكمن التفرد في ملامح تجربة الصين الحديثة في الإصلاح والعصرنة التي تمثل طريقا ثالثا للتنمية.

والتجربة الصينية في التنمية تظهر بجلاء أن التقدم الاقتصادي ممكن، دونما حاجة إلى تغييرات في داخل المجتمع تفرضها النظرية الليبرالية الديقراطية الغربية، ويعكس نجاح الصين في تطويع النظرية الشيوعية وأيديولوجية الحزب الواحد على أسس اقتصادية رأسمالية، مما يجعل من هذه الفلسفة البراغماتية (للشيوعيين الجدد) أخطر تحد نظري وعملي لكلا النظريتين والتجربتين: الاشتراكية الشيوعية والليبرالية الرأسمالية على حد سواء، وهي تمثل رفضا فلسفيا وأكاديميا وعمليا غير مباشر لهما.

استطاعت الصين التوفيق بين خيارين متنافضين للتنمية وهما الخيار الاشتراكي وتمثله تجربة الاتحاد السوفيتي والمعسكر الشرقي، والخيار الرأسمالي لتجربة لدول غرب أوروبا وشمال أمريكا، ونستطيع القول وبكل ثقة: إن الصين هي بالفعل دولة رأسمالية تتبنى في الوقت نفسه نظاما سياسيا شموليا يضمن لها تحقيق المكاسب الاقتصادية.

والصين اليوم شهدت نموا اقتصاديا هائلا وأصبحت قوة لا يستهان بها في مواجهة البلدان الرأسمالية الديمقراطية التي لا تزال تعيش حالة التخبط والحيرة في مواجهة هذا المارد الصيني الذي وصل إلى مستوى من السيطرة كأكبر دائن للعالم الخارجي.

تجاوزت الصين مرحلة إغراق السوق العالمي بالسلع الرخيصة المصنوعة من البلاستيك، وأصبحت تتقدم بخطى متسارعة نحو التحكم في التكنولوجيا الأكثر حداثة وتطورا، وهذا قد يميط اللثام عن الهدف الغير معلن (مع حقيقته) وهو السيطرة على العالم.