أبدأ بأبيات جميلة تحاكي الماضي الجميل وتأسر الوجدان وتلهب المشاعر حين يقول الشاعر أحمد شوقي في قصيدته الرائعة التي غناها ولحنها الموسيقار الموهوب محمد عبدالوهاب وغنتها المبدعة فيروز حين قال

ياجارة الوادي طربت وعادني .

مايشبه الأحلام من ذكراك .

مثلت في الذكرى هواك وفي الكرى.

والذكريات صدى السنين الحاكي .

ويأتي ذلك بعدة أمور أولها خلوة مع النفس تعود فيها بذاكرتك التي لا أحد يملكها إلا أنت ولا أحد يقتحم خصوصيتك إلا انت فتسرح في طفولتك وتتذكر معاناة والديك وهما يجابهان الصعاب من أجل تربيتك وإسعادك وتعود إلى جسمك المنهك وطفولتك البسيطة وأجواء أخوانك وأخواتك وتلك البراءة والذكريات الجميلة والتعليقات الحلوة وفجر بارد ولحظات أنتظار قد تطول (أعزكم الله )عند دورة المياه للوضوء ثم الصلاة في المسجد يعقبه الإنتظار عند سراء الخباز ثم الذهاب إلى المدرسة في ذلك المنزل الطيني الكبير . وهذا قد يتناغم مع مقدمة برنامج الزراعه (أحرث وأزرع أرض بلادك)و مع ترانيم أغاني سيد درويش البنت دي قامت تعجن ومحمد عبده في يانسيم الصباح وسعد أبراهيم في رائعته أرسل سلامي وعبدالله محمد في صبح صباح الخير وغيرها من برامج وأغاني البث عبر إذاعة بلادك الحبيبة .

ما أروع تلك الأيام عندما تبدأ هذه البراءة بالمدرسة وتباشير النهار وتحية العلم وترديد النشيد الوطني في الطابور الصباحي والثوب القطني ودهان الفازلين لتخفيف برودة الشتاء بعد أنتشار (التشقق ) في الأرجل.ومع هذه الذكريات تقلب صورا قديمة حيث لابد من الوقوف أمام الشمس وبالتالي إنكسار أحد العينين بشكل واضح لتجد معظم من في الصورة (معمسين) من العمس وهو إغلاق إحدى العينين لتفادي أشعة الشمس . وتقلب في الدفاتر القديمة لتجد فريق المدرسة والحارة وهذه الأرجل خالية من الحذاء الرياضي بل أن متطلبات الحرفنة أن تلعب حافي القدمين حتى تكون أسرع وأقدر على المناورة وتخطي لاعبي الخصم .ومن الذكريات المؤلمة أيضا تسلط بعض المعلمين ومنظر الطلبة الأضعف أو الأقل شخصية الذين يجد المعلم وغالبا يكون من المتعاقدين في ضربه بشدة وخاصة على قدميه وسيلة لفرض شخصيته والتنفيس عن عقده ومشاكله ثم إمعانا في الإذلال يدعه يمشي حافيا في ساحة المدرسة حتى يراه جميع الطلاب من شباك الفصول .

وهو قبل ذلك يتأكد من أوضاع الطالب فإذا كانت أمه مطلقه أو ظروفه صعبة ولن يسأل عنه أحد فهذا مدعاة لكي يبالغ في العقاب لهذا الطفل المسكين الذي يكون في مرحلته الإبتدائية .وكم طالب موهوب فقدناه بمثل هذا الأسلوب السيئ وهذا أسوأ مافي أيامنا القديمة . ثم بعد هذا اليوم المدرسي الصعب تعود إلى المنزل مشيا على الأقدام لأن كل الطلبة تقريبا يأتون مشيا على الأقدام يحملون حقائبهم الثقيلة بكل الألم والتعب والإرهاق .

وهناك يحتضنك دفء ديوانية المجلس ونيران الحطب التي تجلب الحميمية للمكان فلا تلفزيون ولا أنترنت ولا بلاك بيري ولا واتس أب والكل جالس سعيد حيث العائلة الكبيرة يتبادلون الطرائف وشيء من الألغاز وأحاديث السمر وهدوء المكان وصدق المشاعر . وعندها تتعمق في الصورة القديمة الجميلة من الزمن الجميل التي تحاكي الذكريات صدى السنين الحاكي وتغالب دمعك وتذكر الوجوه التي كانت وعاشت ومرت في دهاليز الحياة وغرائبها وتجاربها ليبقى الوجدان يخفق بالحب والشكر لتلك الأيام الجميلة يوم كانت السكة ضيقة والبيت صغير والأكل قليل والملابس بسيطة لكن النفوس جميلة حنونة يحملها الود والصدق ودفء العاطفة والمشاعر ونبل الروح وسمو الأحساس وعذوبة التعامل وبساطته وإنسانيته . اللهم يارب أرحم من مات من أصحاب الزمن الجميل وتقبل من بقي منهم في عبادك الصالحين .