في عام 2004 نشر الخبير الاقتصادي الأمريكي ” جون بيركنز ” كتابه ” اعترافات قرصان اقتصادي ” أو ” الاغتيال الاقتصادي للأمم ” كما سمي في نسخته العربية.
والذي ألقى خلاله الضوء على ممارسات النخبة المالية والسياسية في الولايات المتحدة خلال النصف الثاني من القرن الماضي، ليكشف عن التاريخ السري للأحداث التي تسببت في انتشار نفوذ ” الإمبرطورية الأمريكية ” حاليا.
الكتاب الذي احتلت نسخته الإنجليزية صدارة قائمة ” نيويورك تايمز ” للكتب الأكثر مبيعا، وتسابقت دور النشر العالمية على ترجمته إلى لغاتها، يوضح دور ” بيرنكز ” وزملائه من خبراء كبرى الشركات الاستشارية الأمريكية في استخدام المؤسسات المالية الدولية لخلق ظروف اقتصادية تؤدي إلى خضوع الدول النامية، من خلال إقراضها أموالا تعرف مسبقاً أن الدولة المقترضة لن تقدر على سدادها.
وعادة ما تتم العملية كالتالي: تقوم شركات الاستشارات الأمريكية بإعداد الدراسات الخاصة بمشروعات البنية التحتية بالدول النامية المستهدفة، والتي تقوم المؤسسات الدولية بناء عليها بتقديم القروض، ولكن بشرط قيام الشركات الأمريكية بهذه المشاريع.
ومن بين المواضع المختلفة التي غطاها ” بيرنكز ” في كتابه الذي جاءت نسخته الإنجليزية في 250 صفحة، والتي شملت الدور الأمريكي المشبوه في كولومبيا وغزو الولايات المتحدة لبنما وفشل القراصنة الاقتصاديين في العراق، سيتم التركيز في هذا التقرير على قصة الإكوادور ومعارك البترول الكبرى التي راح ضحيتها رئيس البلاد نفسه، وشرح كيف دُفعت البلاد دفعاً إلى الإفلاس بعد إغراقها بالديون، لتتركها واشنطن أمام حل وحيد وهو بيع مخزوناتها النفطية الهائلة في غابات الأمازون من أجل سداد تلك الديون.
رئيس الإكوادور ومعارك البترول الكبرى
– بدأ الاستغلال الفعلي للاحتياطيات البترولية الموجودة في حوض الأمازون الإكوادوري في أواخر ستينيات القرن الماضي، وأسفر ذلك عن فتح شهية الاستهلاك، وهو ما جعل النخبة الحاكمة في ذلك الوقت تأخذ البلاد إلى عتبة البنوك الدولية.
– انتشرت الطرق والمنشآت الصناعية وأنشئت مشروعات أخرى في جميع أرجاء الإكوادور، والتي تم بناؤها عن طريق مكاتب هندسية وشركات مقاولات أمريكية، وأُثقل كاهل البلاد بكم هائل من الديون على وعد بالسداد من خلال عائدات البترول.
– في ذلك الوقت تألق نجم في سماء الدولة الإنديزية، وكان يعد استثناء في الأجواء السياسية التي سيطر عليها الفساد. هذا النجم هو ” خايمي رولدوس ” ، والذي عمل كأستاذ جامعي ومحام في أواخر ثلاثينيات القرن العشرين.
– كان ” رولدوس ” أحد السياسيين القلائل الذين لم يخشوا من الصدام مع الوضع القائم، حيث سعى لكشف ما وراء شركات النفط الأمريكية والنظام المراوغ الذي يدعمها، لذلك نجح في إقناع شعب الإكوادور بانتخابه رئيساً للبلاد ليصبح أول رئيس منتخب بعد فترة طويلة من الديكتاتورية.
– في خطاب توليه الرئاسة في العاشر من أغسطس/آب 1979 قال رولدوس: ” علينا أن نراجع أنفسنا للحفاظ على مصادر أمتنا من الطاقة. وعلى الدولة الحفاظ على تنوع الاستثمارات في صادراتها وإلا فقدت استقلالها الاقتصادي. إن قراراتنا ستنبع فقط من المصلحة القومية والدفاع بلا حدود عن استقلالنا وحقنا في تقرير المصير “.
– ذات مرة اضطر مكتب ” رولدوس ” للتركيز على شركة ” تكساكو ” -اشترتها ” شيفرون ” لاحقا- والتي كانت تعتبر أحد أهم اللاعبين في قطاع النفط بالإكوادور في ذلك الوقت.
– قال مستشاره ” خوسيه كازباخال ” في خطاب له ” إذا لم ترغب ” تكساكو ” في المخاطرة بالاستثمار في الاستكشاف والتنقيب عن النفط في المناطق المسموح لها باستغلالها فإن الحكومة باعتبارها شريكا، لها الحق في استثمار تلك المناطق ومن ثم تولي الإدارة كمالك.
اغتيال الرئيس
– في بدايات عام 1981 قدمت إدارة ” رولدوس ” رسمياً قانون الهيدروكربون الجديد – وهو قانون ينظم عمليات استكشاف وبيع النفط ومشتقاته والغاز الطبيعي – إلى البرلمان، والذي إذا نُفذ سيقوم بإعادة تشكيل علاقة الدولة بشركات النفط.
– كان القانون – على عدة أصعدة – يعد خطوة ثورية، حيث كان يهدف لتغيير الطريقة التي يدار بها العمل في القطاع النفطي للبلاد، وكان تأثيره سيمتد إلى أبعد من الإكوادور ليصل إلى كثير من البلدان في أمريكا اللاتينية وأماكن أخرى حول العالم.
– رداً على هذه الخطوة، قام مسؤولو العلاقات العامة في شركات النفط بالسعي إلى تشويه سمعة ” خايمي رولدوس ” ، وحاولوا رسم صورة لأول رئيس منتخب ديمقراطياً للإكوادور في العصر الحديث كأنه ” كاسترو ” آخر.
– لكن ” رولدوس ” لم يتراجع أمام ذلك الهجوم، بل رد عليهم باتهامهم رسمياً بتدبير مؤامرة عليه بالاستعانة بالسياسيين وأصحاب الشركات ورجال الدين، كما اتهم المعهد الصيفي للغويات SIL علناً بالتآمر مع شركات البترول، وفي خطوة أكثر جراءة أمر بطرد SIL إلى خارج بلاده.
– المعهد الصيفي للغويات SIL هو في الأساس مجموعة تبشيرية إنجيلية أمريكية، اتُهمت بالتواطؤ مع شركات البترول، وظهرت في الإكوادور مباشرة عقب إعلان الجيولوجيين الأمريكيين عن أن هناك احتمالات كبيرة لوجود احتياطيات هائلة من النفط في منطقة معينة، وذهبت المجموعة وشجعت أهل المنطقة على الانتقال لمكان آخر.
– بعد مرور بضعة أسابيع فقط على صدور التشريعات، وبعد يومين من طرد SIL حذر ” رولدوس ” جميع الشركات الأجنبية بما فيها شركات النفط من أنها إن لم تضع خططاً لمساعدة شعب الإكوادور فسوف يتم إرغامها على ترك البلاد.
– في الرابع والعشرين من مايو/أيار عام 1981 لقي ” رولدوس ” مصرعه في حادث تحطم طائرة مروع صدم العالم، وساد الغضب جميع أنحاء أمريكا اللاتينية. وأعلنت الصحف في نصف الكرة الأرضية صراحة أن الرجل تم اغتياله على يد الاستخبارات الأمريكية.
– بالإضافة إلى كره واشنطن وشركات البترول له، ظهرت الكثير من الشكوك التي تدعم مزاعم اغتياله، وخصوصاً بعد أن أكد شهود عيان على أن ” رولدوس ” تلقى تهديدات بالقتل، وهو ما دفعه لاتخاذ احتياطات أمنية مثل السفر على طائرتين هليوكوبتر. ولكن في اللحظة الأخيرة أقنعه أحد ضباطه أن يستقل الطائرة المفخخة.
– تولى ” أوزفالدو أورتادو ” رئاسة الإكوادور، وأعاد المعهد الصيفي للغويات ومنح أعضاءه فيزا خاصة، وبنهاية العام أطلق برنامجاً لزيادة التنقيب عن النفط في خليج جواياكيل وحوض الأمازون، شاركت فيه ” تكساكو ” الأمريكية وغيرها من الشركات الأجنبية.
الإكوادور في القاع
– تحولت الإكوادور بالتدريج إلى فريسة مثالية للشركات الأجنبية، حيث تمكن ” بيركنز ” وزملاؤه من الوصول بالبلاد إلى وضع إفلاس حقيقي. بعد أن تم إثقالها بمليارات الدولارات من الديون مقابل تكليف الشركات الأمريكية ببناء مشروعات تساعد عائداتها النخبة الأكثر ثراء.
– بداية من العام 1968 وخلال ثلاثة عقود ارتفعت نسبة الفقر بين سكان الإكوادور من 50% إلى 70% وازداد معدل البطالة من 15% إلى 70%، كما ارتفع الدين العام من 240 مليون دولار إلى 16 مليار دولار، وانخفض نصيب السكان الأكثر فقراً من عائدات الموارد الطبيعية من 20% إلى 6%.
– وجدت الإكوادور نفسها مضطرة لإنفاق ما يقرب من 50% من ميزانيتها القومية لسداد ديونها، وهي الأموال التي كان من المفترض أن يتم إنفاقها في مساعدة الملايين من المواطنين الذين صنفوا رسمياً على أنهم يعانون من الفقر المدقع.
كل ما حدث للإكوادور وقع تحت أعين إدارات أمريكية من الحزبين الديمقراطي والجمهوري عبر عمليات تورطت فيها البنوك متعددة الجنسيات والشركات وبعثات المساعدات الأجنبية.
– خلال العقود الثلاثة، أسهم آلاف الرجال والنساء في جعل الإكوادور في الوضع المعقد الذي وجدت فيه نفسها عند مشارف الألفية الجديدة. بعضهم مثل ” بيركنز ” كان على وعي بما يفعل لكن الغالبية العظمى كانت تقوم فقط بما تعلمته في كليات الاقتصاد والهندسة والحقوق.
– مع بداية الألفية الثالثة، كانت الإكوادور قد وقعت في المصيدة، وأصبحت بين أيدي الأمريكيين، الذين تعاملوا معها كما يتعامل زعيم مافيا المرابي الذي أقرض رجلاً في زفاف ابنته ثم حين سقط الرجل عاد المرابي ليقرضه من جديد.
– مثل أي عضو في المافيا يجيد عمله، أخذ الأمريكيون ما يكفيهم من الوقت للقيام بمهامهم. فلم يكونوا في عجلة من أمرهم، فأسفل غابات الإكوادور الممطرة يوجد بحر من النفط، وكانوا يعرفون أن اليوم المناسب للانقضاض عليها غير بعيد.
في مطلع القرن الحادي والعشرين انخفضت الإمدادات الأمريكية من النفط إلى أقل مستوى لها في ما يقرب من ثلاثة عقود، وبدا احتمال اللجوء إلى المخزون الإستراتيجي خيارا موجعاً بالنسبة لواشنطن التي كانت لا تزال تعاني من هواجس حظر النفط عام 1973.