إن بعضاً من العقائد اللغوية القادمة إلينا من وراء المحيطات, والتي نظن بها العلمية والموضوعية, ليست في الواقع علمية محضة. فقد تلوثت بعض هذه العقائد بنزعات سياسية ولاهوتية-دينية, حتى صارت مزيجاً هلامياً لا نقدر من خلاله على التمييز بين ما هو علمي وما هو سياسي أو لاهوتي.

مفهوم (الأسر اللغوية) الموروثة من القرن الثامن عشر هو أحد هذه العقائد اللغوية, وقد انتشرت انتشارا واسعا حتى صارت عقيدة طاغية, يرددها بشكل ببغائي بعض اللغويين العرب نقلا عن المؤرخين الأوروبين وكأنها من المسلمات العلمية المتفق عليها.

تدعي نظرية (الأسر اللغوية) وجود مجموعة من اللغات تشترك في أصل واحد مصنفة إياها إلى أسر وتقيم بينها حدودا. وهي بذلك لا تعترف بالصلات المعجمية إلا بين أعضاء الأسرة الواحدة.

طبعاً هي نظرية ناقصة, ودليل النقص فيها أن البحث الشامل لا يتيسر إلا بعد قيام النحو الشامل والمعجم الشامل, أما البحث الذي يقوم قبل ذلك فناقص وظني ونسبي, ولا حق لمعتقده في ادعاء الشرعية العلمية.

فقد أزاحت هذه النظرية كل الخطوط المشتركة بين لغات العالم ونصبت حدودا بينها, يضاف لذلك أنها قامت بوضع أسرة اللغات (الهندوأوروبية) بشكل أكثر سمواً وإشراقا, والمطلع على تصنيفات الأسر اللغوية يشعر بنوع من التمييز لهذه الأسرة عن بقية الأسر.

ويبدو أن مخترعي النظرية أرادوا أن يقيموا رابطاً جغرافياً بين أوروبا الغربية والهند, وحدودا لغوية افترضوا بأنها أصل لغاتهم في ظنهم, فهم لا يرغبون إطلاقاً بأن يرتبط تاريخ لغتهم بتاريخ لغات أخرى لثقافات أخرى.

وفي هذا الشأن يقول الدكتور علي فهمي خشيم في كتابه رحلة الكلمات: “العجيب المدهش أن هذا التقسيم أدى إلى نتيجة صارت مسلمة لا تقبل الجدل, فقد حسبت السنسكريتية (لغة الهند القديمة) من جملة اللغات الآرية وهم بحثوا في الصلة بينها وبين اللاتينية مثلا فوجدوها واضحة (أو هم أوضحوها) فقالوا إنها قمة المجموعة (الهندية الأوروبية). فإذا عثروا على تشابه بين العروبية (العربية وأخواتها) واللاتينية أو اليونانية قالوا إن الأمر اتفاق أو استعارة. هكذا … تقفز اللغات وتعبر الجبال والسهول والبحار والوديان من الهند إلى بريطانيا مثلا, ويقال هناك نسب, أما بين العربية واللغة الإنجليزية –مثلا- فلا صلة”.

ويفسر أسباب هذه الانتقائية بقوله: “ببساطة لأن الموقف الأوروبي الاستعماري يقبل أن تكون لغات أوروبا جاءت من نهر الكنج ويرفض أن تكون منقولة عن أرض العرب. وهذه مسألة محزنة جداً تظهر أهل الغرب, حتى (العلماء) منهم بمظهر غير إنساني للأسف”.

ووجود بعض العلاقات التي تتجاوز مسألة الاستعارة, بين أسماء رومانية وأصول عربية –على سبيل المثال- أو وجود جذور عربية للغة اللاتينية, يسقط كل العقائد والحدود القائمة بين الأسر اللغوية, وينسف كل مرتكزاتها ذات الصبغة العنصرية. ولو أرادوا أن يصنعوا رابطاً أو خصائص مشتركة بين لغات أفريقية مثلا وبين مجموعة اللغات الهندوأوروبية لفعلوا, ولكنهم لم يفعلوا والسبب بطبيعة الحال ليس علمياً.

ومن هنا تبدأ مهمة الدارس العربي, لمراجعة كل المسلمات حول الأسر اللغوية وحدودها الوهمية لتحقيق الهدف الأهم, وهو تنقية اللغويات الأجنبية من شوائب العنصرية والنزعات السياسية والدينية, للاستفادة منها ودراستها من منطلقات أحدث وآفاق أوسع.