للعلم حدود, ولتطبيق المنهج العلمي على ظواهر الكون حدوده التي لا يقدر على تجاوزها, ولا شك أن كثيراً من العلماء والباحثين قد عارضوا استخدام المنهج العلمي في حقول عدة, كالعلوم الاجتماعية والتاريخ واللغة والأخلاق.
وبما أن موضوعنا يتطرق لعلم الأخلاق, الذي أشتهر به الفيلسوف الهولندي باروخ سبينوزا, فإننا نرغب في تسليط الضوء على بعض الانتقادات والاعتراضات التي واجهها سبينوزا حينما شرع في جعل الأخلاق مبحثاً علمياً.
ففي عصر سبينوزا, الذي حقق العلم فيه فتوحاته وانتصاراته, أراد سبينوزا أن يطرح بديلاً للنظرة الغائية للأخلاق, ويعلن فلسفته الخاصة عبر تبني النظرة الحتمية لتكون البديل المقترح لقيام أخلاق علمية.
فقد كان لنشأة العلم منذ غاليليو وحتى نيوتن أكبر الأثر على فلاسفة ذلك العصر وما تلاه نظراً لما يتميز به العلم من سيادة النظرة الميكانيكية للعالم, فقد أصبح من الممكن في تلك الفترة من التاريخ التعبير عن قوانين الفيزياء في صورة معادلات رياضية واستخدام الرياضيات على نطاق واسع في التعبير عن الحقائق العلمية.
ويعد كتاب (علم الأخلاق) أهم كتبه وأدلها على منهجه وفي هذا الكتاب يصطنع سبينوزا منهج الرياضيين في الهندسة, ويسرف في اصطناع هذا المنهج حتى لقد جاء كتابه أشبه بكتب الهندسة منه بكتب الفلسفة, حيث حوى كتابه طائفة من التعريفات والبديهيات والمسلمات والبراهين والنتائج, فكان خطاب سبينوزا الفلسفي يعتمد أنموذجا رياضياً هندسياً لأن هدفه كان تأسيس الأخلاق على أساس علمي شامل.
والسؤال الذي يطرح نفسه بداهةً: هل الأخلاق علم؟ وهل يمكن تطبيق المنهج العلمي على الظواهر الأخلاقية؟ يجيبنا العالم الدكتور ألبير باييه صاحب كتاب (أخلاق العلم) حيث يرى أن سبينوزا ألبس منهجه عن الأخلاق لباساً علمياً, ولكن هذا المنهج ليس من العلم في شيء, إلا في أسمه فقط (علم الأخلاق).
ويقول الفيلسوف الألماني الشهير ليبنتز واصفاً منهج سبينوزا في الأخلاق: ” إن سبينوزا لا يبدو دائماً معلماً عظيماً في فن البرهان, وإن عقل هذا المؤلف يبدو معقداً ملتوياً, وإن من النادر عنده أن يسلك الطريق الواضح الطبيعي, وإنه ليؤثر الطرق الوعرة والمسالك الدائرية الطويلة, وإن براهينه إنما هي مما يحير العقل أكثر من ينور … وإنه أحيانا ما يتلاعب بالبرهان”.
قام مشروع سبينوزا على ضرورة تطبيق الطريقة الرياضية على موضوعات ليست رياضية, فتتحول هذه الموضوعات بفضل الطريقة الرياضية إلى حقول تنطبق عليها شروط الرياضيات في التعريف الدقيق وتحديد المفاهيم واختيار البديهيات مع ضرورة عدم ظهور تناقض في النظام, وسلوك هذه الطرق الملتوية أدى إلى صعوبة إثبات مراده مما اضطره للتلاعب بالبراهين كما يقول ليبنتز.
والنتيجة بطبيعة الحال هي استحالة الوصول إلى قوانين أخلاقية ووضع مبادئ عامة لأي سلوك أخلاقي, فإذا كنا نستطيع قياس الظواهر الطبيعية فإنه لا يمكننا أن نقيس كمياً قوة العقيدة في نفوس الناس ومقدار ما يحملونه من الخير والشر, فكان اتباع الأساليب العلمية الدقيقة أمراً لا يمكن تحقيقه لما بين الظواهر الطبيعية والأخلاقية من اختلافات وفوارق جوهرية.
التعليقات
اترك تعليقاً