من بلاد الرافدين, انطلقت تسمية (اللغات الجزرية), التي مثلت نوعاً من الثورة المضادة تجاه التسمية الاصطلاحية (اللغات السامية) التي قامت على أساس يشك بصحة مصادره المسلمون من جهة, ومن جهة أخرى لما تبع التسمية من اعتقاد أن شعوبها أدنى مستوى من الشعوب الآرية, وأنهم مختلفون في التركيب البيولوجي عن الغربيين, وأنهم أحط من الأوروبيين في العقلية, وهذا الاعتقاد جاء على يد المستشرق الفرنسي أرنست رينان في منتصف القرن التاسع عشر في كتاب ألفه عن أديان الساميين.

مما حدا ببعض اللغويين إلى الدعوة إلى نبذ هذه التسميات التي وضعها الغربيون, وعدوها تسميات تريد طمس الحقائق والنيل من التاريخ, ومن هنا جاءت الدعوة إلى إبدال هذه التسمية بتسمية (اللغات الجزرية).

وكان أول من دعا إلى هذه التسمية المؤرخ العراقي طه باقر وأخذها منه بعض اللغويين العراقيين مثل سامي الأحمد وكاصد اليزيدي, ولا تزال هذه التسمية تحتاج لتصديرها وإشاعتها خارج أروقة الجامعات العراقية, فهي أنسب بديل للتسمية التعتيمية القديمة (اللغات السامية), لأن من مزاياها أنها تخلو من المدلول السياسي الحديث الذي لصق بالساميين والسامية وخص به اليهود دون غيرهم.

ويعرف أستاذ الدراسات اللغوية في جامعة الموصل كاصد ياسر الزيدي اللغات الجزرية بأنها: “مجموعة من اللغات التي نطقت بها شعوب كانت تسكن الجزيرة العربية. وهي اللغة البابلية والآشورية والعربية والآرامية والعبرية والفينيقية والحبشية وهي التي يطلق عليها الغربيون اسم (اللغات السامية) وهذا الاصطلاح الأخير غير دقيق ولا صحيح من الناحية العلمية”.

ويضيف قائلا: “ومع أن هذه التسمية اصطلاحية, من حيث إنه ليس هناك شعوب تسمى (السامية) إلا أنها صارت محل نظر كثير من الباحثين المعاصرين, بل رفض لدى عدد غير قليل من العرب منهم, إذ يلاحظ على سفر التكوين أنه اعتمد في تقسيمه هذا على الروابط السياسية والثقافية والجغرافية, أكثر من اعتماده على صلات القرابة والروابط الشعبية”.

وهذه ما جعل المستشرق بروكلمان يرى أن ثمة أسبابا سياسية حملت كاتبي العهد القديم على إقصاء الكنعانيين من جدول بني سام. ومع كل ما قيل عن هذه التسمية, فإنها في الواقع تبقى مضللة ومؤدية إلى فهم خاطئ, فضلا عن بنائها على غير أساس علمي, عكس مصطلح اللغات الجزرية الذي يخلو من المؤاخذات والعيوب الموجودة في مصطلح السامية.

ويقول الدكتور سامي سعيد الأحمد الأستاذ في جامعة بغداد في ذات الشأن: “وقد أطلق على الأقوام الجزرية من قبل الباحثين الغربيين اسم الساميين, وهي تسمية لا تستند على أساس رصين من الواقع التاريخي ولا تدعمها المصادر المعتمدة والأدلة المستندة على التمحيص الموضوعي والدقة العلمية. ولما كانت هذه المجموعات البشرية قد اندفعت من شبه الجزيرة العربية سواء من شمالها الغربي أو من أجزائها الأخرى فيستحسن اطلاق لفظة الجزريون (سكان الجزيرة العربية) عليهم”.

ومن الباحثين الذين استخدموا هذا المصطلح (اللغات الجزرية) الدكتور عامر سليمان الذي وضعه بين هلالين بجانب اقتراحه بتسمية اللغات السامية باللغات العربية القديمة أو باللغات العاربة, لأنه رغب استخدام المصطلح الذي استخدمه كثير من الباحثين العراقيين فيما بعد, رغبة منه في توحيد الآراء وتثبيت إحدى التسميات علها تزيح التسمية القديمة (السامية) وتبطل استخدامها.

ومن ناحية الموطن الذي استوطنته الشعوب الجزرية, هناك شبه إجماع على أن شبه الجزيرة العربية هي الموطن الأصلي للشعوب الجزرية, ومنها انطلقوا مهاجرين إلى بقاع أخرى مختلفة ليؤسسوا حضارات مزدهرة, فمن المتعارف عليه أن الهجرات تكون من الأماكن القاحلة الجدبة إلى الأماكن الغنية الخصبة وليس العكس. ولذلك يرى الدكتور كاصد ياسر الزيدي أن اللغة العربية هي أقرب اللغات الجزرية للغة الجزرية الأم, لاحتفاظها بأكثر خصائص هذه اللغة وخاصة ظاهرة الإعراب.