من المعلوم أن اللغة العربية الفصحى لم تكن تمثلها لهجة قريش وحدها, ولا يمكن وصفها بلهجة قبيلة معينة, وإنما خليط من عدة لهجات عربية نشأت بفعل عوامل وأسباب عديدة, قال الفراء: “كانت العرب تحضر الموسم كل عام وتحج البيت في الجاهلية وقريش يسمعون لغات العرب, فما استحسنوه من لغاتهم تكلموا به فصاروا أفصح العرب وخلت لغتهم من مستبشع اللغات ومستقبح الألفاظ”.

نستنتج من قول الفراء أن القرأن الكريم نزل بلسان قريش الذي تشكل عبر عملية طويلة من الاختيار والتنقيح لأفصح ما جادت به ألسنة العرب قاطبة, يقول محمود عكاشة في كتابه علم اللغة: “فقد كان العربي إنسانا فطريا في بيئة نقية من شوائب اللغة, فكل همه الشاغل منصب على لغته التي يتحدث بها والتي لا يملك غيرها من المعارف الإنسانية, فعكف عليها يتفحصها وينتقي منها أعذب الألفاظ التي تتمتع بجزالة لفظها وغزارة معناها, وصقل منها جملا, وأقام منها شعرا موزونا, وخطابا قويا موجزا في لفظه بليغا في معناه”.

وقد ضمنت له العزلة التي يحياها نقاء لغته وصفائها من الدخيل, فجاء القرآن الكريم بلسان أقوى مما صقلوه وهذبوه, فلم يستطيعوا أن يباروه بأشعارهم ولا بخطبهم, ولم يجدوا مصرفا عنه إلا اللغو فيه والتلهي عنه أو عدم سماعه لقوة تأثيره وسحره فيهم, فهم أهل ذوق عال.

يقول ابن كثير في تفسيره للآية في سورة آل عمران: (أني قد جئتكم بآية من ربكم, أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله) “قال كثير من العلماء: بعث الله كل نبي من الأنبياء بما يناسب أهل زمانه, فكان الغالب على زمان موسى عليه السلام السحر وتعظيم السحرة, فبعثه الله بمعجزة بهرت الأبصار وحيرت كل سحار, فلما استيقنوا أنها من عند العظيم الجبار انقادوا للإسلام, وصاروا من عباد الله الأبرار. وأما عيسى عليه السلام, فبعث في زمن الأطباء وأصحاب علم الطبيعة فجاءهم من الآيات بما لا سبيل لأحد إليه أن يكون مؤيدا من الذي شرع الشريعة, فمن أين للطبيب قدرة على إحياء الجماد, أو مداواة الأكمة والأبرص, وبعث من هو في قبره رهين إلى يوم التناد. وكذلك محمد, بعث في زمان الفصحاء والبلغاء وتجاريد الشعراء, فأتاهم بكتاب من الله عز وجل, فلو اجتمعت الأنس والجن على أن يأتوا بمثله, أو بعشر سور من مثله, أو بسورة من مثله, لم يستطيعوا أبدا ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا”.

فكانت فصاحة القرآن على نهج معجز لكل فصحاء العرب, في عصر تألقت فيه ملكة البيان على أكمل صورها, لدى قوم لم يعرفوا من صنائع الدنيا سوى صنع البيان, ولم يبرعوا في فنون الحياة, براعتهم في قول الشعر والنثر, وروى الحريري نقلا عن الأصمعي فذكرأن (معاوية قال ذات يوم لجلسائه: من أفصح الناس؟ فقام رجل من السماط, فقال: قوم تباعدوا عن عنعنة تميم وتلتلة بهراء وكشكشة ربيعة وكسكسة بكر.. فقال: من أولئك؟ قال: قومك). فيتضح أن العرب أنفسهم قد حددوا المستويات الفصيحة في قبائلهم, مبينين ما ارتفع منها إلى مستوى البيان العربي وما أنحدر عنه, وظاهرة الكشكشة كانت من اللهجات المذمومة في عرف فصحاء العرب.

وكان للخليل رأي حول الكشكشة, إذ جاء في معجم العين: “إن من ترك عنعنة تميم وكشكشة ربيعة فهم فصحاء” وذهب أحمد بن فارس إلى أن الكشكشة تعد إحدى اللغات المذمومة, وقد عدها السيوطي من ردئ اللغات, وتتبع ظاهرة الكشكشة وغيرها من الظواهر الصوتية مثل الكسكسة والعنعنة والطمطمانية والفحفحة, فنجد بأنها من الظواهر التي ينبغي للعربية الفصحى أن تخلو منها, فلذلك تجنب الشعراء والفصحاء استعمالها.

ولعل الصورة الأخرى للكشكشة المتمثلة بإبدال الكاف شينا هي نظير ما نسمعه اليوم في لهجتنا المحلية من صوت مزدوج يماثل صوت (ch) في اللغة الإنجليزية, ففي عصرنا الحالي حيث اتسعت الهوة بين العربية الفصيحة والعامية إلى درجة أن أستمرأ سكان بعض المناطق ركاكة اللفظ وسهولة النطق وأتخذوها لغة تداول, بل مما يزيد اتساع الهوة هو ظهور أفراد يروجون لها ويلبسونها لباس الفصاحة مع أنها في الحقيقة من الظواهر المذمومة عند فصحاء العرب.