أيام مرت جرت في ذيولها شهور، تبعتها سنوات، والقلب لا يزال متعلق بذلك الحيز الصغير المقدس، وعتمته الحاجبة لعوالم الغيبيات، ومازال العقل حائرا في حال تلك السنين هناك، وكيف تمر، فجل ما أعرفه أن العمر هنا يمر، وأنا مازالت مطويا على هذا القبر كطفل ينادي وينتظر الرد.

لا زالت عالقا هناك على أبواب هذا الحيز، وكأني حديث عهد باليتم، وكأن هذا هو أول أيام أمي في القبر، وظلت رغم السنين حيرتي بعد لمستي الأخيرة لجثمانها المسجى، وفي أي موضع مناسب تكون نظرتي الأخيرة إليها ؟ أفي أول أحزاني أم في أخرها؟

أمي، كيف ارتضيته هذا الرحيل؟ ولما استسلمتي لهذا الفراق؟ وكيف هان عليكي الوصال؟ ألم تعلمي أن الحزن عليكي طبع في القلب عذابات كثيرة، وفي الحشا ترك هما ثقيلا؟

أمي، لم أنساكي ساعة من نهار ولا طرفة عين في ليل، وها هنا أتحسس موضعك، مقعدك، طرحتك، سجادة صلاتك، مسبحتك، وسريرك الخالي، وبعض أدوية لازالت تسأل عنكي وعن حالك.

أيا أمي النائمة طويلا، ياحبيبة كل أيامي، ليتني أدركت ما أنا فيه الأن قبل ذهابك، لقد شنق صمت الموت صوتي، وكثيرا أنا متعب ومشتاق إلى سؤالك، دعوتك، نظرتك، ابتسامتك، واهتمامك بأمري.

أمي، هذه الحياة ما عادت مقبولة إلا من شبية لكي، لمثلكما تنظم القصائد، نعم غابت هي الأخري، لكنها نقشت بأفاعليها محبتها في جدران القلب، وأغلب ظني أنه بموتي سيفني جسدي وسيبقي اسمها.

مثلك هي كانت، كأميرات الأساطير الخرافية، تشبة النساء في بعض ملامحهن، غير أنى بالبعاد اكتشفت أنها طيف ملائكي صنعها الرب على عينه، قلبها مرمر، وثغرها عبق، سميعة للأحزان؛عليمة إلي مدى كم كان الجرح غائر؛ وطبيبة لكل الألم.

ليتها معكي تعود، لأقف على باباها شهورا نادما، لأكفر عن خطايايا، وعن سخافاتي وعن حماقاتي، واعتذر منها عن غفواتي وأسألها الصفح عن ذلاتي، وأعلم رغم كل شىء أنها ستعفو.

وأخيرا يا أمي بلغي والدي عني السلام فأنا أعلم أنكما لم تموتما، بل ذهبتما لربكما.. اشتقت إليكما.