دائماً ما يرنو الأدباء لفضاء اللغة الواسع, والنصوص المفتوحة على سماوات الأدب, فالحرية هي الأمل المنشود في نهاية المطاف, وقلما نجد أديباً كبل يديه بالأغلال طواعية, وأدخل نفسه في سجون اللغة راغبا, كما فعل أديبنا العظيم أبو العلاء المعري, فيلسوف الشعر أو شاعر الفلسفة.

يقول أبو العلاء المعري:

أراني في الثلاثة من سجوني *** فلا تسأل عن الخبر النبيث

لفقدي ناظري ولزوم بيتي *** وكون النفس في الجسد الخبيث

فأضاف المعري لنفسه سجناً رابعاً هو سجن اللغة, فاللغة هنا لم تقتل كاتبها ولكنها سجنته سجنا اختياريا, وعزلته وجدانيا في أقفاص القافية. وألزم نفسه ما لا يلزم في ديوانه الإعجازي (لزوم ما لا يلزم) الذي ذاع صيته باسم لزوميات المعري.

ولعل التزام أبي العلاء المعري لنظام القافية المعقد, يضعه في مقدمة الشعراء العباقرة الذين ابتدعوا مثل هذه الظاهرة الأسلوبية الفريدة, وليزيد من تعقيدات لزومياته, ورفعها عن مستوى الشعراء العاديين, فأبي العلاء لجأ إلى وسائل مختلفة لإضفاء سمة التعقيد, ولا ريب أنه يحمل في دواخله أهدافا مبطنة لم يصرح بها بل أعطى القارئ حرية إيجادها والتعرف عليها.

فاللزوميات هي الإطار الذي حبس نفسه فيه والسجن اللغوي الذي أقحم أفكاره بداخله, والتزم فيها أن تكون القافية على حرفين أو ثلاثة, وأن تشمل قصائده كل حروف اللغة العربية. فقسم المعري لزومياته تبعا لحروف المعجم ولكل حركة من ضم وفتح وكسر ثم سكون.

ويهدف المعري من سلوك هذا المسلك الشاق الذي قال عنه ابن الأثير: (من أشق هذه الصناعة مذهبا وأبعدها مسلكا) أن يطرح التحدي في ميدان هندسة الشكل وبنائه بناءا معمارياً متميزاً, مما يجعلنا أمام مهندس معماري ومدقق واع, مثبتا لنا أنه أعجوبة زمانه في اللغة العربية وقواعدها, فقد قال عنه أبو زكريا التبريزي:” ما أعرف أن العرب نطقت بكلمة ولم يعرفها المعري” وقال عنه طه حسين: “فلسنا نعرف عالما من علماء اللغة, منذ العصور الأولى لتدوينها, أتى بمثل ما أتى به أبو العلاء, فهو لم يكد يدع لفظا من ألفاظ اللغة, إلا أحصاه وأستعمله في شعر أو نثر, وما أظن أن كاتبا أو شاعرا من كتاب العرب أو شعرائهم أحاط بمادة اللغة العربية وأحصاها وأستعملها أحسن استعمال وأدقه وأصدقه كما فعل أبو العلاء” وهو القائل مفتخرا بنفسه:

وإني وأن كنت الأخير زمانه *** لآت بما لم تستطعه الأوائل

كان أبو العلاء نادرة وأعجوبة من نوادر وأعاجيب الزمن, لما منح من ذكاء متوقد وحافظة عجيبة وروح ساخرة وثقافة واسعة وشعور ملتهب وعقل نفاذ يغوص في أعمق الأعماق, وكان مثقفا ثقافة لغوية واسعة يضيف لهذه الثقافة اللغوية شدة اطلاعه بالثقافات المتنوعة, إذ كان يعنى عناية شديدة بجمع الأفكار والصور القديمة وحشدها في أشعاره وكتاباته.

يضاف لها توظيفه لضروب متعددة من المحسنات البديعية التي تظهر لنا سرا من أسراره اللغوية بغموضها ووعورة ألفاظها والتي عكست بطبيعة الحال ثقافته وعمق أفكاره, فلم يبرح ضربا من ضروب البلاغة إلا وصبها في قوالب إبداعية لا مثيل لها بطريقة تتسم بالعفوية والسلاسة.

فكان انتهاجه هذا الفن ذي المسالك الوعرة رغبة منه في زيادة العنصر الترنمي والموسيقي في لزومياته, فهذه الموسيقى الجميلة تتنوع أنغامها لتشعر القارئ بالمتعة الفنية التي تدفعه للتفاعل مع الفكرة, فيسهل على المعاني والأفكار الوصول لأعمق مناطق الشعور الإنساني بطريقة موسيقية وإيقاعية ميزت الشكل الأدبي لفن أبي العلاء, فلم يكن التزام المعري ثلاثة حروف في قوافي لزومياته إلا رغبة منه إعطاء أبياته المزيد من الجرس الموسيقي والإيقاع الموزون معبرا بتلك الموسيقى الشعرية عن عاطفته المتأججة, ومن أجمل أبياته التي تنبض بالموسيقى الفياضة:

زمزمي الكأس وهاتي *** وأسقينيها يا مهاتي

فهذا البيت رغم بساطته وعفويته لكنه بيت يفيض بالجذل والبهجة حيث تتفجر في هذا البيت الموسيقى بإيقاعاتها الرنانة, فتهتف النفس معها في بهجة وسرور.

وبما أن اللغة هي وسيلة التواصل والأداة التي يلوذ بها الشاعر لنقل تجربته وعواطفه, فهي التي تعمل على إظهار أشعاره إلى الوجود بما تحويه من بناء فني, فيبدو أن المعري أراد أن يعبر من خلال لزومياته عن حبه للغة العربية ورغبة في صد التهم عنها, وإحقاق قدرتها وقدرة خصائصها وتركيبها الهندسي على الإبهار اللغوي, وإظهار غناها وثرائها.

إن لزوميات المعري تعد ظاهرة من ظواهر الحنين إلى النمط العربي القديم, وإيثارا لعمود الشعر, ونوعا من الانتصار للفصحى. وكانت محاولة لربط اللغة بتاريخها, وإحياء لألفاظها المهجورة وذلك أشبه برد الفعل لما سعى إليه بعض أعداء الفصحى من تهوين شأنها وقذفها بالجمود والتخلف.

فما فعله المعري بقصد أو بدون قصد في لزومياته لدليل ناصع على غنى اللغة العربية ومرونتها وقدرتها على إعطاء الشاعر ما يريد من القوافي لقصائده مهما طالت وصعبت, ولا شك لدينا بأن الهدف الذي قامت عليه اللزوميات قد تحقق, فالمعري لم يكتفي بعبقريته الفذة بل أستعان بعبقرية اللغة في طرح أفكاره ومعانيه, هذه الأفكار والمعاني التي اشتملت على شتى مجالات العلوم الإلهية والعلوم الطبيعية والرياضيات, واستطاع من خلالها أن يزاوج بينهم مزاوجة نادرة عكست عبقريته الفذة أو عكست عبقرية اللغة.