يعتبر عبدالرحمن بن محمد بن خلدون في نظر العديد من الباحثين المؤسس الحقيقي لفلسفة التاريخ, وتتركز شهرته في مجال التاريخ والاجتماع والسياسة, لكنه في نفس السياق كان رائداً في مجال اللسانيات واللغويات.

لذلك فإن اهتمامنا بهذا المفكر العظيم ينطلق من رغبتنا الأكيدة للتطرق إلى ما جاء به من مفاهيم لغوية جعلت الكثيرين يعتبرونه من مؤسسي نظرية الملكة اللسانية, وبالتالي فإن أفكاره الريادية وآراءه العلمية المعاصرة كان لهما أثرهما الكبير في توسيع دائرة الأبحاث اللغوية لتشمل مجالات عدة كالبحث اللغوي النفسي ومبحث اللغة الاجتماعي ومبحث علم التواصلية.

لقد أدرك ابن خلدون بحسه العلمي, أن موضوع علم اللغة, هو الملكة اللسانية, وأن كل إنسان ترعرع في وسط لغوي ما يستطيع الحكم بأصولية الجمل بصورة بديهية, أي أنه يستطيع أن يحكم على الجمل أو التراكيب التي يسمعها حين تتوافق والقواعد الضمنية التي يطبقها متكلم اللغة بصورة لا شعورية والكامنة ضمن كفايته اللغوية.

فكانت ملكة اللغة العربية تكتسب طبيعياً بالسماع حين كان المتكلم ينشأ في وسط لغوي يتحدث العربية الفصحى, فلا يحتاج إلى أن يتعلمها على يد معلم, وبهذا فسر القول الشائع بأن اللغة العربية طبع في العرب, لكن هذه الملكة فسدت بسبب اختلاط العرب بالعجم, لذلك لم يعد السماع وسيلة كافية لتعلم اللغة الفصحى.

فتلقي الطفل في مراحله الأولى لمخزون لغوي جديد من شأنه أن يؤدي إلى تطوير وتنمية قواعده النحوية التي ما زالت في طور التكوين, فتكون القواعد النحوية بمثابة مرحلة انتقالية مميزة, وذلك بسبب قلة اعتماده للغة وتطبيقها, وباستعماله المكثف لها تتحول هذه المرحلة الانتقالية إلى حفظ شديد, فتحصل له (المتعلم) هذه الملكة بهذا الحفظ والاستعمال, وتزداد بكثرتهما رسوخاً وقوة.

يقول ابن خلدون: “أن المتكلم من العرب يسمع كلام أهل جيله, وأساليبهم في مخاطباتهم وكيفية تعبيرهم عن مقاصدهم, كما يسمع الصبي استعمال المفردات في معانيها؛ فيلقنها أولاً, ثم يسمع التراكيب بعدها فيلقنها كذلك, ثم لا يزال سماعهم لذلك يتجدد وفي كل لحظة ومن كل متكلم, واستعماله يتكرر إلى أن يصير ذلك ملكة وصفة راسخة ويكون كأحدهم”.

فكما هو واضح من كلام ابن خلدون فإنه يتضح بأن نظريته تتخذ من القواعد النحوية نواة لها, وتعتبر الملكة اللغوية جزءاً لا يتجزأ من طبيعة الإنسان, وقد أضحت هذه النظرية واضحة خلال القرن التاسع عاشر مع مجيء اللغوي الشهير فردينان دوسوسير, الذي حذا حذو ابن خلدون ليعتبر اللغة ظاهرة اجتماعية تتكون من مجموعة رموز يخزنها العقل الباطن في حين أن الكلام هو فعلي ينتج عن جهد عضوي حركي.

وتشترط نظريته أن عقل الطفل قادر على اكتساب أية لغة يتكلمها الإنسان, فهو مزود بقدرة فطرية لمواجهة مثل هذه العموميات من خلال تلقيه لأي من هذه اللغات. وضمن هذا السياق فرق بين عملية التعلم والاكتساب للغة فيقول: “وهذه الملكة كما تقدم تحصل بممارسة كلام العرب وتكرره على السمع والتفطن لخواصه التركيبية وليست تحصل بمعرفة القوانين العلمية في ذلك التي استنبطها أهل صناعة البيان, فإن القوانين إنما تفيد علماً بذلك اللسان ولا تفيد حصول الملكة في محلها”.

ويرحب إزاء ذلك بكتاب سيبويه لأنه لم يقتصر على القوانين فقط بل ضخ فيه دماءً من أمثال العرب وشواهدهم حيث يساعد على تكوين الملكة, وهو بذلك يطلب أن تحذو كل كتب النحو حذوه بالأمثلة الراقية والنصوص المنتقاة والتمارين النافعة.

فالإنسان يولد وهو لا يعلم شيئا عن اللغة, لكن لديه قدرة فطرية من أجل التفكير وإدراك عمومياتها, فالمعرفة اللغوية بالنسبة له تميزها الملكة اللسانية التي تعتبر عضوا فعالا في التدريس والتعلم على وجه العموم, وهذا يرتبط أساسا بجودة كل من المعطيات التربوية والملكة المكتسبة لدى المدرس وأيضاً مدى جاهزية الدارس لاكتساب الملكة.

لقد تنبه ابن خلدون إلى أهمية الاستعمال فجعله حدا فاصلا بين مصطلحين, هما صناعة اللغة العربية وملكة اللغة العربية, فمعنى صناعة العربية أن يمتلك المتعلم قوانين اللغة من إعراب ونحوه, وأن يحفظ كلام العرب, لكن دون تطبيق ذلك في كلامه هو, فهذه لا تسمى عنده ملكة, بل صناعة, وحين يستعمل المتعلم المحفوظ والمفهوم, فهو عندئذ يملك الملكة اللغوية, وقد أجاد ابن خلدون في شرح الفرق بين الصناعة والملكة بالتمثيل بمثال حسي, إذ اعتبر من لا يستعمل اللغة وهو يعرف قوانينها كمن يعرف قوانين الخياطة والنجارة معرفة نظرية فيصف ما ينبغي القيام به في الصناعتين, لكن إذا طولب بأن يطبق معرفته النظرية عجز.

تبرز نظرية الملكة اللغوية في فهم ابن خلدون على فهم واع للظاهرة اللغوية بصورة عامة, وكان حديثه هذا فتحا جديدا في الظاهرة اللغوية تتيح لدراسي اللغة بداية طيبة في حل مشكلاتها, فهي نظرية لا تخلو من عملية, وأن مبادئه اللغوية يطبعها طابع العصرنة, بل أكثر من ذلك يمكن اعتباره من مؤسسي نظرية الملكة اللغوية.