لم يزل الشعر الجاهلي موضعاً للجدل, والأخذ والرد, فالشعر الجاهلي لم تقتصر أهميته على الجانب الأدبي والإبداعي وحسب, فهناك بواعث دينية للاهتمام به وسبر أغواره وتتبع تاريخه وتقصي أخبار أهله للتعرف على حالتهم النفسية والاجتماعية.

فقد عرف علماء المسلمين منذ الصدر الأول للإسلام مكانة الشعر الجاهلي, وشعروا بحاجتهم للشعرالعربي, للإستعانة به في فتح مغاليق الألفاظ والأساليب الغريبة الموجودة في القرأن, وفي هذا يقول ابن عباس: “إذا سألتموني عن غريب القرآن, فألتمسوه في الشعر, فإن الشعر ديوان العرب”.

وقد أثار المستشرقون الجدل حول حقيقة الشعر الجاهلي, وغرسوا في ترابه بذور الشك, ليصنعوا بذلك قضية انتحال الشعر الجاهلي التي رفع شعارها عميد الأدب العربي طه حسين, الذي أراد من الشعر الجاهلي أن يكون حقل تجارب لشكوكه المنهجية التي نهج فيها منهج رينيه ديكارت في الشك كما يقول.

ولكن السحر انقلب على الساحر, فقد أصبحت حجج وبراهين طه حسين نفسه طاولة للشك المنهجي المضاد, فقد طالت طه حسين الكثير من الاتهامات بسرقة البحث الذي نشره المستشرق البريطاني صمويل مرجليوث بعنوان (نشأة الشعر العربي) وكان نشره قبيل ظهور كتاب (في الشعر الجاهلي) وطرح فيه كثير من البراهين المؤكدة لقضية انتحال الشعر الجاهلي.

بالغ طه حسين في الشك في حقيقة الشعر الجاهلي مبالغة تنتهي إلى رفضه كاملاً, وقد وضع حججه وبراهينه التي يعد أغربها على الإطلاق تلك “الحجة البحرية” الغريبة التي يظن فيها طه حسين أن الشعر الجاهلي وصل إلينا خال من أي إشارة للبحر وفي ذلك يقول: “من عجيب الأمر إنا لا نكاد نجد في الشعر الجاهلي ذكر البحر أو الإشارة إليه ” فلا شك بأن هذه الحجة ومع غرابتها وغرابة الاحتجاج بها, توحي لنا بأن طه حسين لم يكن مطلعاً على الشعر الجاهلي, وأن ما احتج له لم يصدر عن اطلاع واستقصاء شامل لكل دواوين ومجاميع الشعر الجاهلي.

لا أعرف كيف غابت عن طه حسين معلقة طرفة بن العبد التي علقت على جدار الكعبة المشرفة, وقبل تعلقها بجدارن الكعبة فقد علقت بالعقول والأذهان لذيوع صيتها وجمالها الإبداعي, والتي استهلها طرفة بن العبد بذكر البحر والسفينة قائلا:

لِخَولة َ أطْلالٌ بِبُرقَة ِ ثَهمَدِ، … تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليدِ

وُقوفاً بِها صَحبي عَلَيَّ مَطيَّهُم … يَقولونَ لا تَهلِك أَسىً وَتَجَلَّدِ

كَأَنَّ حُدوجَ المالِكيَّةِ غُدوَةً … خَلايا سَفينٍ بِالنَواصِفِ مِن دَدِ

عدولية ٌ أو من سفين ابن يامنٍ … يجورُ بها المَّلاح طوراًويهتدي

يشقُّ حبابَ الماءِ حيزومها بها … كما قسَمَ التُّربَ المُفايِلُ باليَدِ

وفي الحيِّ أحوى ينفضُ المردَ شادنٌ … مُظاهِرُ سِمْطَيْ لُؤلُؤٍ وَزَبَرجَد

 

وهذه المعلقة هي من أشهر المعلقات, بل أنها تأتي في المرتبة الثانية بعد معلقة أمرؤ القيس (قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل) وفيها يشبه طرفة بن العبد حدوج المالكية بمجموعة السفن في البحر أيضاً ولكنه يرجع ليفصل في نوع هذه السفن, فهي إما عدولية كسفن عمرو بن قميئة أو من سفن ابن يامن, ثم يصفها في عباب البحر, ويذكر أنواعها وحركاتها, وتوجيه الملاحين لها, وأخذ مقدمها يشق البحر لسرعتها.

وما أكثر شيوع تشبيه المحبوبة بالدرة ووصف الغوص والغواصين ومنها قول أمرى القيس في تشبيه محبوبته بالدرة:

خدلجة رؤدة رخصة *  كدرة لج بأيدي الخول

وقول النابعة الذبياني:

أو درة صدفية غواصها  * بهيج متى يرها يخر ويسجد

وقول الأعشى:

كجمانة البحري جاء بها  * غواصها من لجة البحر

 

ويضاف لذلك ما يحويه الشعر الجاهلي من وصف الرحلة البحرية التجارية والفخر بالقوم وكثر عددهم ومثال ذلك يقول عمرو بن كلثوم مفتخراً بقومه وعزتهم ومنعتهم:

ملئنا البر حتى ضاق عنا * وماء البحر نملؤه سفينا

إذا بلغ الفطام لنا صبي  * تخر له الجبابر ساجدينا

 

وقام الشاعر الجاهلي بتوظيف البحر وتصويره في قصائده وجعل من البحر ومخاوفه وأسراره والخوض فيه سببا وطريقا للوصول للمدوح بعد عناء للفوز بنواله وبذله, ورسم لنا صورة متخيلة للبحر وأمدنا بالمفردات التي تدل على السفينة والبحر, واستوحى منها المعاني التي تصور حياة العرب في كسبهم معاشهم والطريقة التي كانوا يصنعون بها السفن.

أن الشعراء في الجاهلية استلهموا بيئة البحر في قصائدهم بغزارة وتفصيل وفي جوانب عدة, عكس ما يجزم به بعض الدراسون أن الشعراء الجاهليين كانوا يجهلون البحر ولا يستوحونه في فنهم. ومن يطيل البحث في الشعر الجاهلي يرى أن به تصويراً واسعاً متنوعاً للبحر, ويخلص إلى أن الشعراء الجاهليين أفادوا منه فوائد كثيرة في معانيهم وصورهم.

وصحيح أن ذكر البحر لم يكن بغزارة وتنوع ذكر البادية والصحراء, فالإنسان ابن بيئته كما يقال, فخلو الأدب الروسي من ذكر البادية والصحراء لا يعني أن الأدب الروسي منحول بكامله, ولا يعني بأن ليو تولستوي وفيودور دوستويفسكي شخصيات من وحي الخيال.

نخلص هنا أن عميدنا الفاضل, عميد الأدب العربي طه حسين, لم يحالفه التوفيق في حجته البحرية, فالشعر الجاهلي يزخر بذكر البحر الذي لا يكاد يخلو منه ديوان شاعر جاهلي, ولا شك لدينا بأن عميد الأدب لم يشك بالطريقة الصحيحة فيما يتعلق بالبحر والسفن في الشعر الجاهلي.