عندما يذكر النحو فأول ما يطرأ للعقل, سيبويه وكتابه الفريد, كتاب لا يضاهيه كتاب من كتب النحو في منهجيته وإتقانه وأسلوبه وشموليته التي غطت جانباً واسعاً من قضايا اللغة وإشكالياتها, وعلى الرغم مما يقال عن التأثير الأجنبي في نشأة النحو العربي, فإن الرأي الراجح أن البحث اللغوي عند العرب أصيل وأنه من نتاج العقلية العربية, وأن سيبويه هو في الحق مؤسس علم النحو وواضع نظريته.

وقد أجمع العلماء قديماً على نفاسة الكتاب وتفرده في فنه, حتى قالوا عنه: إنه لم يسبقه إلى مثله أحد قبله, ولم يلحق به من بعده, وبلغ افتتانهم به أن سموه قرآن النحو.

يقول عنه الدكتور محمد حسن عبدالعزيز عضو المجمع العربي بالقاهرة: “وقد وضعه اللغويون المحدثون في الغرب في موضعه المستحق, وقال قائل منهم إنه في منزلة بين سوسير وبلومفيلد, وإنه ليس مؤسس علم النحو فحسب بل علم اللغة أيضاً”.

ولم يكن غريباً إذا أن ينشر في باريس قبل نشره في القاهرة, وأن يترجم إلى الألمانية في وقت معاصر لنشره فيها, وأن تؤلف عنه كتب وبحوث عالية القيمة, وأن يقال عنه: إن التراث اللغوي للعربية ليس إلا هوامش على كتابه.

سيبويه هو أول من ترك لنا وصفاً منهجياً مفصلاً لأصوات العربية, من حيث عددها وترتيبها بحسب مخارجها وصفاتها, وما تتعرض له في سياقاتها, وما كتبه سيبويه في الأصوات وجد طريقه إلى كل من كتبوا كتباً جامعة في النحو, بل إنه وجد طريقه إلى علماء التجويد والقراءات, يضاف لها آثاره الجليلة في علمي التفسير والأصول, وعلماؤهما يعترفون بفضله, يقول ابن حيان: “فمن تاقت نفسه إلى علم التفسير.. أن يعتكف على كتاب سيبويه فهو في هذا الفن المعول عليه والمستند في حل المشكلات إليه”.

وأجتذب كتاب سيبويه أنظار كثير من المستشرقين فعكفوا على دراسته واكتشاف ذخائره, لعل أهمها دراسة (شاده) الألماني الذي كتب بحثاً ضافياً عن الأصوات في كتاب سيبويه, وثمة دراسات أخرى عالجت نظرية سيبويه النحوية وآلياته في التحليل, نذكر منهم: بوهاس وجيوم وكيلوغلي وكارتر وتربوا وجرنتفست وأونز, وغيرهم الكثير.

ويقول محمد حسن عبدالعزيز: “ومن أحد اللغويين المحدثين الذين قرأوا الكتاب في ضوء علم اللغة الحديث ما كتبه (بوهاس) عن الفرضية الإفصاحية في الكتاب, تقوم الفرضية على أن سيبويه لا يحلل في العادة منطوقات مفردة بل مجموعات من المنطوقات لإظهار وجوه الشبه بينها ووجوه الخلاف من خلال عمليات تفصح عن نية المتكلم أو قصده, ومن ثم فإن الفرضية الإفصاحية لا تفسر الكلام ذاته فحسب, بل تفسر علاقته بالموقف الاتصالي الذي يتحقق فيه. وقد أجرى بوهاس هذه الفرضية على الأبواب الخاصة بظن وأخواتها وبالإسناد في الجملة الخبرية اسمية أو خبرية فاستقامت له”.

ويعد الباحث (كارتر) من أهم اللغويين المعاصرين المعنيين بنحو سيبويه, فمن البحوث القيمة التي نشرها كارتر بحثه (Sibawayhi and modern linguistics) وبحثه (An Arabic grammarian of eighth century) وأكتشف كارتر نقاط اتفاق واسعة بين مناهج سيبويه ومناهج البنيويين في القرن العشرين وبخاصة: دي سوسير وبلومفيلد ومارتينيه.

ومن البحوث اللغوية الحديثة الهامة؛ البحوث التي دارت حول التداولية (Pragmatics) والتداولية هي: إيجاد القوانين الكلية للاستعمال اللغوي والتعرف على القدرات الإنسانية للتواصل اللغوي, والمهمة الكبرى للتداولية أنها لا تدرس البنية اللغوية في ذاتها فحسب, بل تدرسها في استعمالها في المواقف المختلفة باعتبارها كلاماً محدداً صادراً من متكلم محدد, بلفظ محدد, في موقف تواصلي محدد, لتحقيق غرض محدد.

وقد تبين لكارتر وغيره من اللغويين المحدثين عرباً وأجانب أن سيبويه تنبه إلى عناصر هذا المفهوم بل أن كارتر يعقد مقابلة بين سيبويه و (جريس) تؤكد عديداً من نقاط التلاقي بينهما.

ولا يخفى علينا أحد أشهر الشخصيات اللغوية الأمريكية نعوم تشومسكي, الذي لا يخفى على أحد تأثره واستفادته الكبيرة من نتاج سيبويه الضخم, بل يعد تشومسكي أكثر شخصية غربية نهلت من معين الشخصيات العربية في حقل اللغويات.

ولا ينكر أحداً أوجه الشبه بين النحو العربي والنحو التشومسكي, وهي واضحة للعيان ولا تحتاج لأدنى جهد لإثباتها, فقد بدأت البحوث التي تحاول التعرف على ما في النحو العربي من عناصر تحويلية: كالحذف والتعويض والتوسيع والاختصار والترتيب.

وجد الباحثون هذه العناصر متوافرة في كتاب سيبويه, وأشار بعضهم إلى أمثلة لتحليلات سيبويه التحويلية مثل: التحول من بناء الفعل للفاعل إلى بنائه للمفعول, وإلى النقل عن الفاعل والمفعول والمبتدأ في باب التمييز مثل: فاض الإناء ماء, وفجرنا الأرض عيوناً, وأنا أكثر منك مالاً, والتحويل من المصدر المؤول إلى المصدر الصريح…. إلخ.

وفي وضع كتاب سيبويه على خريطة علم اللغة بعامة يرى كارتر أن الكتاب ما زال في حاجة إلى تقييم شامل في ضوء علم اللغة الغربي, وأنه أيضاً في حاجة إلى ترجمة جديدة يسيرة التناول, وتفسير عباراته تفسيراً علمياً.