قدمت الدراسات التشريحية منذ وقت مبكر استدلالات وحججاً على وجود مراكز لغوية ومنها منطقة بروكا, وتنسب تسميتها لطبيب الأعصاب الفرنسي كارل بروكا.

حيث قام عام 1861 بتشريح مخ أحد الأشخاص المتوفين, وكان يعاني فقدان النطق, ولم يكن يعاني شيئاً أخر, ولاحظ بروكا من خلال التشريح ظهور إصابة في الفص الأيسر من مقدمة الرأس, فأستنتج أن هذه المنطقة هي المنطقة المتخصصة في الكلام, وهي موجودة في مقدمة الفص الأيسر من الدماغ, واختصاصها محدد في تركيب الكلمات والجمل وتصريفها وإرسال الأوامر إلى الأعضاء المتخصصة في عملية نطق الكلام. (اللسانيات وأدواتها المعرفية, حسين الزراعي).

ومن المناطق المتخصصة في اللغة أيضا, منطقة فيرنك نسبة إلى مكتشفها عالم الجراحة الألماني كارل فيرنك, ومهمتها استقبال المدخلات السمعية, وهي المنطقة المسؤولة عن فهم وتفسير الكلام وإعداد المعاني وتفسير المفردات واختيارها من أجل إنتاج الجمل.

يتضح من المذكور آنفا أهمية منطقة بروكا وفيرنكا من ناحية إنتاج اللغة ومعالجة مشاكل اللغة, ولكن هذان العالمان (مع أهميتهما) لم ينالا ما ناله السياسي واللساني الأمريكي نعوم تشومسكي من هالة إعلامية طاغية صنعت منه أشبه ما يكون بالنجم السوبرستار.

بل أن منطقة بروكا وفيرنكا مع أنها تضاف للإكتشافات العلمية المثبتة بالتجربة ولكنهما لم تحظ بما حظي به جهاز تشومسكي لاكتساب اللغة, الذي لم يتم إثباته علمياً منذ عام 1957 حتى يومنا هذا.

فهذه الذات التشومسكية الحائرة بين السياسة واللغويات يصفها توم وولف قائلاً: ” سياسات تشومسكي تستند إلى سمعته كلغوي عظيم, وسمعته كلغوي عظيم تستند إلى سمعته كمفكر سياسي, وسمعته كمفكر سياسي نفخت سمعته كلغوي عظيم ليصبح عبقرية شاملة, والعبقرية نفخت المفكر ليصبح فولتيرا حقيقيا, والفولتير الحقيقي نفخ عبقري العباقرة إلى المارد الفلسفي… نعوم تشومسكي).

يتضح من كلام توم وولف وهو العارف بالشأن التشومسكي والنظريات التشومسكية أن تشومسكي الناشط والكاتب السياسي, الذي يعد من أشد منتقدي التحركات العسكرية الأمريكية, ليس إلا نتاج عمليات متوالية من النفخ الإعلامي جعلت منه أهم مفكر على قيد الحياة (هكذا تم تصويره).

ولعل أهم منتجاته اللغوية ما يعرف بـنظرية جهاز اكتساب اللغة LAD (Language acquisition device) التي صنعت ثورة هائلة في عالم اللغويات, في حين أن هناك نظريات متعلقة بنفس الفكرة وتعالج نفس القضية وهي اكتساب الطفل للغة ولكن هذه النظريات لم تجد الاهتمام الإعلامي كما هو الحال مع تشومسكي ونظريته.

ولعل أحد أهم النظريات اللغوية تلك التي طرحها اللغوي البريطاني ديفيد كريستال صاحب موسوعة كامبردج للغة وموسوعة كامبردج للغة الإنجليزية, وهذا اللغوي لايزال بطبيعة الحال على قيد الحياة, ونظريته تبدو أكثر منطقية من أسطورة نشومسكي التوليدية, وتقول نظرية كريستال بأن الطفل يكتسب اللغة على خمس مراحل مرتبطة ببعضها بشكل لا يمكن ملاحظته بدقة.

ففي المرحلة الأولى لاكتساب اللغة يبدأ الطفل بتسمية الأشياء بكلمات مفردة, ويقوم بربطها بالأشياء الأخرى, وفي المرحلة الثانية يبدأ الطفل في إطلاق الأسئلة التي تبدأ بضمائر الاستفهام مثل (where, what, when) متبوعة بأسماء أو أفعال. في المرحلة الثالثة يقوم الطفل بطرح الأسئلة المختلفة مع اختلاف نغمة الصوت بين الكلمات, وفي هذا المرحلة يستطيع الطفل التعبير عن رغباته بقواعد نحوية أفضل.وفي المرحلة الرابعة يستطيع الطفل استخدام تراكيب جمل معقدة مع امتلاكه لأدوات لغوية مرنة للتعبير عن مدى واسع من الكلمات.وفي المرحلة الخامسة والأخيرة يكون فيها الطفل قادر على استخدام اللغة للتعبير عن كل الأشياء التي يحتاجها, فهو قادر على إعطاء المعلومات وطرح الأسئلة وإجابة الأسئلة, وتقديم الطلبات وطرح الاقتراحات. والطفل في هذه المرحلة يستطيع أن يتكلم عن الأشياء نظريا وشرطيا كان يطرح جملة مثل (you’ve got turn the tap on first in order to wash your hands).

طرحنا هنا نظرية ديفيد كريستال باختصار والمعبرة عن الخمس مراحل لاكتساب اللغة عند الأطفال, وهي كما يتضح أكثر منطقية وعقلانية من جهاز تشومسكي لاكتساب اللغة, ولكنها فارق الانتشار الإعلامي بين النظريتين يعكس فقدان الحياد الذي هو شرط أساسي من شروط المنهج العلمي.

ومع أن أنصار (النحو التوليدي) قد طرحوا شعارهم الشهير (دراسة اللغة علمياً) ولكنهم لم يقدموا أي نظرية موحدة واسعة النطاق يقبلها جميع المهتمين بهذا العلم, ولم يقوموا أيضا بتطوير أنموذج بعينه يقبله الجميع, بل قاموا بتسويق نظرياته والاستشهاد بها في كل دراسة لغوية مع أنها في الواقع لم تثبت علمياً.