عندما نتطرق للحديث عن التطور اللغوي, والتبدل والتشكل المطرد الذي يطرأ على مختلف عناصر اللغة من أصوات وقواعد ومتن ودلالة, فإن لزاماً علينا أن نستثني اللغة العربية الفصحى من ظاهرة التطور اللغوي, لأن للفصحى ظروف زمانية ومكانية لم تتوفر لأي لغة من لغات العالم.

ذلك أنها ارتبطت بالقرآن الكريم منذ أربعة عشر قرناً, ودون بها التراث العربي الضخم, وذلك هو السر الذي يجعلنا لا نقيس العربية الفصحى بما يحدث في اللغات الحية المعاصرة, فإن أقصى عمر لهذه اللغات –في شكلها الحاضر- لا يتعدى قرنين من الزمان كحد أقصى, فهي دائمة التغير والتشكل في كل عنصر من عناصرها, وعرضة للتفاعل مع اللغات المجاورة, تأخذ منها وتعطي, ولا تجد في ذلك بأساً, لأنها لم ترتبط في فترة من فترات تطورها بكتاب مقدس, كما هو الحال في اللغة العربية.

أن اللغة كائن حي, يتطور على ألسنة المتكلمين بها, وكما يقول الدكتور رمضان عبدالتواب: “لا يستطاع التنبؤ باتجاه التطور اللغوي في ظاهرة من الظواهر اللغوية كما لا يمكن الإجابة عن السؤال التالي في الدرس اللغوي: لماذا أكثرت الظاهرة اللغوية السير في اتجاه معين, ولم تسر في اتجاه آخر, فلا يستطيع أكبر عباقرة اللغة, معرفة لماذا تطورت القاف في بعض اللهجات المصرية إلى همزة, ولم تتطور إلى غين, وكيف تطورت القاف إلى غين في بعض نواحي العراق والسودان”.

فاللغة ظاهرة اجتماعية, تحيا في أحضان المجتمع, وتستمد كيانها منه, ومن عاداته وتقاليده وسلوك أفراده, كما أنها تتطور بتطور هذا المجتمع, فترتقي برقيه, وتنحط بانحطاطه.

ويضيف قائلاً: “وليست عناصر اللغة كلها سواء, في سرعة قبول التطور؛ إذ هناك فرق في تطور اللغة بين الصوتيات والصرف والمفردات, فالنظام الصوتي يستقر منذ الطفولة ويستمر طول الحياة, فالإنسان يحتفظ حتى آخر حياته, بمجموعة الحركات التي تعودت عليه أعضاؤه الصوتية, منذ طفولته, اللهم إلا أن يحدث له عارض ناتج من التعليم, وذلك في حالة أن يتلقن نطقاً أجنبياً, يحل محل النطق القومي.

والنظام الصرفي ثابت أيضاً, نعم إن استقراره يتطلب وقتاً أطول, ولكنه بعد أن يستقر لا يعتريه تغير يذكر, ذلك لأن الصرف لا يتغير في أثناء جيل واحد, بل هو كالصوتيات, إنما يتغير في الانتقال من جيل إلى جيل, فالنظام الصوتي والنظام الصرفي إذا ما اكتسبا مرة بقيا طول العمر وهما يدينان باستقرارهما, إلى استقرار ذهنية المتكلم.

أم المفردات, فإنها على العكس من ذلك لا تستقر على حال, لأنها تتبع الظروف فكل متكلم يكوًن مفرداته من أول حياته إلى آخرها, بمداومته على الاستعارة ممن يحيطون به, فالإنسان يزيد من مفرداته, ولكنه ينقص منها أيضاً, ويغير الكلمات في حركة دائمة من الدخول والخروج”.

لذا جرت العادة على أن يطلق على التغيرات الصوتية, التي تطرأ على اللغة اسم (القوانين الصوتية) أي القوانين التي تعبر عن علاقة بين حالتين متتابعتين للغة واحدة في وسط اجتماعي معين وهي ليست قوانين عامة شبيهة بقوانين علم الطبيعة أو الكيمياء ولهذا السبب نجد تطوراً صوتياً في إحدى اللهجات ولا نجد له أثراً في لهجة أخرى.

يقول ستيفن أولمان في كتابه دور الكلمة في اللغة: “من المعروف مثلا أن القوانين في العلوم الطبيعية, تصدق دائماً, بقطع النظر عن المكان والزمان, فالتيار الكهربائي, إذا وقع تحت ظروف معينة سوف يحلل الماء إلى أوكسجين وهيدروجين, في أي مكان وفي أي زمان, وسوف يكون في استطاعتنا أيضاً, أن نتنبأ ببعض النتائج الأخرى إلى حد معين, أما قوانين الأصوات فليست لها هذه الخواص, إنها تنبئ فقط عن قدر معين من الاطراد في التطورات السابقة, في حدود معينة, من حيث الزمان والمكان, أي أنها تشير إلى صوتا معينا قد تطور إلى صوت آخر بذاته, في فترة كذا وفي لغة كذا, تحت ظروف معينة ومحددة تحديداً دقيقاً”.

ومن أجل ذلك يجب أن يؤخذ مصطلح (القانون الصوتي) بمعناه الواسع لا بمعناه الدقيق, كما في ميادين العلوم الطبيعية والكيميائية وما شبهها من العلوم.

لذلك يستحيل (علمياً) دراسة كيفية تطور هذا الصوت أو ذاك, لأن التطور الصوتي محدود بمكان معين, ومعظم ظواهر التطور الصوتي يقتصر أثرها على بيئة معينة, ولا نكاد نعثر على تطور صوتي لحق جميع اللغات الإنسانية في صورة واحدة.