كثيراً ما نسمع من أتباع تشومسكي في البلدان العربية ترديد مصطلحات ومفاهيم مثل (تكافؤ اللغات) ويحرصون أشد الحرص على الطعن بمفهوم التفاضل بين اللغات, ويحاولون بكل الطرق المتاحة والحجج المتوفرة التأكيد ولو بصورة قسرية أنه لا فضل للغة على أخرى.

وهم لا يكفون عن ترديد مصطلح (العلم) في كل مكان وزمان والتشدق بمواكبة العصر العلمي المتسارع وكأن الدنيا خلت من العلم وملئت بالخرافة والأسطورة, ولم يبق سواهم لنصرة العلم وتبديد أوهام الخرافات.

وهذا التشبث المستميت بمبدأ تكافؤ اللغات له ما يبرره على كل حال, فتفوق لغة على أخرى وتميز خصائصها عن خصائص غيرها يتعارض جملة وتفصيلاً مع فرضية تشومسكي (النحو التوليدي) التي حاولوا قدر المستطاع فرضها وجعلها حقيقة علمية لا تقبل الجدل والنقاش, وكل ما عداها ليس إلا خرافات وأساطير وعصبيات قومية.

سخروا من الدراسات اللغوية العربية القديمة, وصفوها بالتخلف وعدم مواكبة العصر, أطلقوا عليها مصطلح (التراث) وكل من يهتم بهذه الدراسات بأنه تراثي أو تقليدي وهذه التسمية بالتأكيد تبطن بداخلها الكثير من اللمز والسخرية والتندر ومحاولة تهميش المخالف والحط من قدره.

صوروا أنفسهم بـ (السوبرمان) المدجج بأسلحة العلم وعتاده والقادم لتحرير الشعوب المهووسة بالخرافة من نير التراث وأصفاد التقليد, إنهم قادمون يحملون شعار اللغة الإنسانية الكلية المحمولة على أكتاف العلم.

وكلنا سمعنا تباكيهم المفتعل من صعوبة تدريس قواعد النحو والصرف للصغار والكبار على حد سواء, ووصل ببعضهم التصريح علانية بأنه لا حاجة لتدريس قواعد اللغة, والاكتفاء بدراسة اللغة بلا قواعد وبلا نحو وصرف, فهل من (العلم) يا سادة أن يقوم الفيزيائي بدراسة الظواهر الفيزيائية دون معرفة القوانين الفيزيائية والرياضية؟ هذا الهراء ليس من العلم ولا يمت بصلة لصرامة العلم وحياديته, أنه عبث علمي صادر من تقليد أعمى وهزيمة ثقافية مروعة.

والذئب لا يهرول عبثاً كما هو دارج, فمن أجل عين تكرم مدينة, لأن فرضيات تشومسكي تستحق كل هذا العناء, فهو مرشدهم الروحي الذي أفنوا حياتهم من أجله, فأصبحوا مثل المريدين أو الدراويش الذين يتحلقون حول شيخ طريقتهم وهم في حالتي افتتان وتوقير لا حدود لهما, فلا نعرف كيف اكتسب تشومسكي هذه الكاريزما الطاغية والمؤثرة التي تجعل هؤلاء البشر يدندنون باسمه وكأنه نبي مرسل لا ينطق عن الهوى.

فكل ما يطرحونه في الحقيقة هو محاولة لفرض النحو التوليدي الذي لم يستطع أن يفرض نفسه من الناحية العلمية ولم يقدر على الوقوف على قدميه بين مجالات العلم المختلفة وكل ما قيل ويقال عنه مجرد فرضيات ليس إلا.

فكل الدراسات التوليدية تنطلق من افتراض مركزي مفاده أن دماغ الإنسان مزود بموهبة فطرية للغة وهذا بدوره يحيلنا على أن أهمية النحو التوليدي تأتي من وراء فرضية أخرى تقول بأن كل اللغات تنبع من أصل واحد أي لغة واحدة تعكسها بنية فطرية محددة في العقل, وهذا ما يجعلهم يرددون شعارهم الزائف (مبدأ تكافؤ اللغات).

لذا فكل طفل يولد وهو مزود بقواعد عامة تساعده على فهم لغته الأم, وعلى إنتاج الجمل الجديدة دونما تقليد, وكل طفل يمتلك جهازاً في دماغه يطلق عليه جهاز اكتساب اللغة (كما يعتقدون).

وجهاز اكتساب اللغة هذا الموجود في دماغ الإنسان يولد السلاسل اللغوية وهذه اللغة هي (نحو) وليس شيئاً آخر من مكونات اللغة الأخرى, ولأن قواعد النحو محدودة وبموجب هذه القواعد التي يمنحها جهاز إكتساب اللغة للطفل فإن كل أطفال العالم قادرين على توليد العبارات اللغوية اللامحدودة وبصورة فطرية محضة.

لذلك لم يتوان أتباع تشومسكي على التندر من تدريس كتب ابن عقيل وسيبويه في المدارس لأنهم يظنون بأن الطفل الصغير قادر فطرياً على معرفة قواعد اللغة عن طريق جهاز اكتساب اللغة دون الحاجة لدراسة كتب ابن عقيل وسيبويه والفراهيدي, وهم بطبيعة الحال لم يتقيدوا بأسس المنهج العلمي ولم يبرهنوا على صحة افتراضهم أن المخ يحتوي بالفعل على هذا الآلة اللغوية الخاصة وعن كيفية عملها بالضبط.

وكما هو معروف فإن نظرية النحو التوليدي تموت تدريجيا وهناك من هجر هذه النظرية من أتباعها السابقين المعتقدين بصحتها, فكثير من الباحثين يعتبرون أن اللغة مكتسبة وليست فطرية وأن تمثل الطفل للمعنى يخضع لنموه الذهني في علاقته بالبيئة التي ينشأ فيها, وبما أن اللغة مكتسبة من البيئة المحيطة وأنها مجرد نتاج بشري فإن الضوء سيتم تسليطه مجدداً على صحة مفهوم (تكافؤ اللغات).