ارتبطت مصر الفرعونية بالسحر أكثر من غيرها من الحضارات القديمة وذاع صيت السحرة المصريين بين الشعوب المجاورة, وأسهب الرحالة القدماء في الحديث عن براعتهم في السحر, كما أن الكتب السماوية قد ألمحت إلى طرق من تلك الممارسات السحرية.

يقول زاهي حواس: (فقد وصل السحرة الفراعنة بالفعل إلى معرفة علوم ما وراء الطبيعة أو الميتافيزيقا, وتمكن السحرة من السيطرة على قوى غير ملموسة توجد حولنا وفي الأشياء, سواء الأحياء أو الجمادات).

فلا يزال السحر سر من أسرار الفراعنة, ولا يزال الغموض يحيط بطبيعة وماهية السحر عند الفراعنة ليبقى السحر لغزاً أبدياً يلازم الحضارة الفرعونية عبر العصور.

ومن المعروف أن كل نبي أو رسول يؤتى من المعجزات ما برع فيه أهله وقومه, حتى يثبت لهم قدرة الله سبحانه, فهذا سيدنا عيسى عليه السلام جاء إلى الروم بمعجزة هم بارعين فيها ألا وهي الطب, فكان يشفي الأبرص والأقرع, والأكثر من ذلك يحيي الموتى, وكل هذا بأمر الله وقدرته, وهكذا معظم الرسل والنبيين يأتون بما برع فيه قومهم.

وقد كان سحرة فرعون على علم راسخ في السحر, مما جعلهم يفرقون بين ماهو سحر وماهو ليس بسحر, وحين أرسل الله لهم موسى عليه السلام بعصاه المعروفة التي كانت معجزته الخالدة في إبطال سحر الفراعنة الموصوف في القرآن الكريم بأنه “سحر عظيم”.

فكانت هذه العصا التي انقلبت حية تسعى تلقف ما صنعوا من سحر عظيم, حينها انقلبت قلوبهم وتحولت من منتهى الكفر والضلال إلى منتهى اليقين والإيمان, لأنهم أيقنوا أن عصا موسى كانت معجزة إلهية حقيقية, في حين كان سحرهم ليس إلا تمويهاً وخداعاً.

وكما ارتبط الفراعنة ببراعتهم في السحر, فإن العرب قد ارتبط ذكرهم بالقدرة على البيان وبالبراعة في علوم اللغة العربية من بحور وقافية وأوزان وبلاغة فاقت كل لغات العالم, فأرسل الله سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام بمعجزة القرآن الكريم ومافيه من بلاغة وعظمة في اللغة.

فلا يمكن أن تأتي معجزة لغوية وبيانية بهذا القدر من الإعجاز على قوم بلا أي قدرات لغوية خاصة أو قوم أنتجوا لغة مكافئة لغيرها من اللغات. فما هي إذن صفة القوم الذين تحداهم الله سبحانه في كتابه الكريم وصفة لغتهم؟

يقول الأستاذ محمود محمد شاكر واصفاً صفة هؤلاء القوم ولغتهم:

أولها: أن اللغة التي نزل بها القرآن معجزاً, قادرة بطبيعتها هي, أن تحتمل هذا القدر الهائل من المفارقة بين كلامين, كلام هو الغاية في البيان فيما تطيقه القوى, وكلام يقطع هذه القوى ببيان ظاهر المباينة له من كل الوجوه.

ثانيها: أن أهلها قادرون على إدراك هذا الحجاز الفاصل بين الكلامين. وهذا إدراك دال على أنهم قد أوتوا من لطف تذوق البيان ومن العلم بأسراره ووجوهه, قدراً وافراً يصح معه أن يتحداهم بهذا القرآن, وأن يطالبهم بالشهادة عند سماعه, أن تاليه عليهم نبي من عند الله مرسل.

ثالثها: أن الذين اقتدروا على مثل هذه اللغة, وأوتوا هذا القدر من تذوق البيان, ومن العلم بأسراره, ومن الأمانه عليه, ومن ترك الجور في الحكم عليه, يوجب العقل أن يكونوا قد بلغوا في الأعراب عن أنفسهم بألسنتهم المبينة عنهم, مبلغاً لا يدانى.

رابعها: أن يكون ما بقي من كلامهم, شاهداً على بلوغ لغتهم غاية من التمام والكمال والاستواء, حتى لا تعجزها الإبانة عن شيء مما يعتلج في صدر كل مبين منهم.

خامسها: أن تجتمع فيه ضروب مختلفة من البيان, لا يجزئ أن تكون دالة على سعة لغتهم وتمامها, بل على سجاحتها أيضاً, حتى تلين لكل بيان تطيقه ألسنة البشر على اختلاف ألسنتهم.

آمن سحرة موسى بأن معجزة العصا هي معجزة إلهية حقيقية بما أوتوا من العلم في مجال السحر, كما أن العرب أدركوا بما أوتوا من قدرات لغوية متفوقة بأن القرآن مفارق لجنس كلام البشر, فمن هذا الوجه طولب العرب بالإقرار والتسليم, ومن هذا الوجه تحيرت العرب فيما تسمع من كلام يتلوه عليهم رجل منهم, تجده من جنس كلامها لأنه نزل بلسانهم, لسان عربي مبين.