الشورى والقدوة!

وضع الإسلام دعائم الحكم النيابي وطبق أبو بكر وعمر مبدأ الشورى تطبيقاً دقيقاً.

لكن وا أسفاه ما لبثت دولة بني مروان أن احتك خلفاؤها بالفرس والروم فرأوا مبلغ تسلط الحكومة على الرعية ، وإذعان المحكومين لسلطان الحاكمين ، فجنحوا للاستبداد ، وضربوا بمبدأ الشورى عرض الأفق ، ذلك بان النفس البشرية نزاعة إلى الاستبداد بفطرتها ، وللبيئة في طبع النفوس بطابعها اثر أي اثر.

ولو أن بني مروان لم ينزعوا إلى الاستبداد لما وجدت دعاية بني العباس ضدهم سميعاً ولا مجيباً.

كان النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فأمر بإصلاح شاة ، فقال رجل: يا رسول الله عليّ ذبحها، وقال آخر: عليّ سلخها ، وقال ثالث: عليّ طبخها. فقال صلى الله عليه وسلم: وعليّ جمع الحطب. فقالوا: يا رسول الله نحن نكفيك ذلك ، فقال قد علمت ولكني اكره أن أتميز عليكم ، فان الله يكره من عبده أن يراه متميزاً بين أصحابه ؛ وقام فجمع الحطب.

ولا أريد أن اشوه جلال هذا المثل الرائع بمحاولة التعليق عليه ولما استقرت الخلافة إلى أبي بكر ، وذلك سنة إحدى عشرة صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس قد وليت عليكم ولست بخيركم ، فان أحسنت فأعينوني وان أسأت فقوموني.

ومما يروى عن زهده ورضاه بالكفاف من العيش أن زوجته اشتهت حلواً. فقال: ليس لنا ما نشتري به. فقالت: أنا استفضل من نفقتنا في عدة أيام ما نشتري به. قال: افعلي ، ففعلت ذلك ، فاجتمع لها في أيام كثيرة شئ قليل ، فلما عَرَّفته ذلك ليشتري به حلواً أخذه فرده إلى بيت المال. قال: هذا يفضل عن قوتنا ، واسقط من نفقته بمقدار ما نقصت كل يوم وغرمه لبيت المال من ملك ومال كان له.

ورأى أن يستمر على استغلال ما يملكه والارتزاق من وراء عمل يده ولا ينفق على نفسه من بيت مال المسلمين شيئاً واصبح يوماً وعلى ساعده أبراد وهو ذاهب إلى السوق فلقيه عمر فقال: أين تريد؟ قال: إلى السوق. قال: أتصنع هذا وقد وليت أمر المسلمين؟ قال: فمن أين أطعم عيالي؟ فقال: انطلق يفرض لك أبو عبيدة ، فانطلقاً إلى أبو عبيدة فقال: افرض لك قوت رجل من المهاجرين ليس بأفضلهم ولا بأوكسهم كسوة الشتاء والصيف ، إذا أخلفت شيئاً رددته وأخذت غيره ، ففرضا له كل يوم نصف شاة وما كساه في الرأس والبطن.

واخرج ابن سعد عن ميمون قال: لما استخلف أبو بكر جعلوا له ألفين فقال: زيدوني فان لي عيالاً وقد شغلتموني عن التجارة، فزادوه خمسمائة.

هذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه صاحب الرسول عليه الصلاة والسلام في الغار. فماذا عن عمر في الشورى والمال والعدل؟ نلتقي إن شاء الله في المقالة القادمة بأمثلة بديعة لها مدلول على عظمة تحثنا على الأسوة والقدوة المكملة لسنة رسول الله عليه الصلاة والسلام.