“جسر على نهر درينا” عنوان رواية الكاتب اليوغسلافي “إيفو آندريتش” الحائز على جائزة نوبل للآداب, إنها رواية لا تحمل شخصية رئيسية عدا الجسر. هذا الجسر الذي يصفه الكاتب بأنه “لا مثيل له” كان هو الزمان والمكان والبطل الروائي وقد نسجت حوله الأساطير والخرافات والحكايات الخارقة للعادة, وسٌطرت فوقه الملاحم والأعمال البطولية والمنجزات البشرية المدهشة.

توالت الأحداث والكوارث الطبيعية والمآسي البشرية حول الجسر, وطاف شبح الموت والمرض والأوبئة, صور لنا الكاتب ما تعرض له سكان المدينة من الظلم وكيف تم تسخيرهم لبناء هذا الجسر الذي بني أصلاً ليربط بين أطراف الإمبراطورية العثمانية ويثبت سلطة وهيبة المركز البعيد, فصار هو مركز الحياة بالنسبة للسكان البسطاء الذين يقطنون حول الجسر.

تنامت الحركة الاقتصادية بعد بناء الجسر وازدهرت سوق المدينة وأخذت المدينة تأخذ طابعها الرأسمالي القائم على مبادئ العرض والطلب, ومن المهم هنا أن نستشهد بأحد الشخصيات العابرة في الكتاب, شخصية اخترناها من بين عشرات الشخصيات التي تدور حول فلك الشخصية المحورية في الرواية “الجسر” وهو كوستا باراناتس, رجل شاب وأبن فلاح فقير, لم يكن في الماضي من سكان المدينة وإنما جاءها منذ عشرين عاماً صبياً أجيراً, وسرعان ما أصبح على جانب من الثراء بعد أن جمع ثروة سريعة بصفقات جريئة لم يراع فيها أحداً.

كان بيع فاكهة الخوخ هو ملاذه نحو الثراء, بعد أن سلك سلوكاً اقتصادياً خالصاً, فقد احتكر في فصل من الفصول مقادير كبيرة من الخوخ, مقادير تفوق طاقاته كثيراً, أملا في أن يفرض الأسعار على سوق الفاكهة, فيسدد ما عليه من ديون ويجني أرباحاً طائلة, ولكن أحلام كوستا باراناتس المسكين ذهبت أدراج الرياح وتعرضت ثروته الطائلة للدمار الشامل بعد أن تعرضت المدينة لطوفان أكل الأخضر واليابس.

يؤكد هذا الشاب المسكين بأن الإنسان زيادة على وصفه حيوانا اجتماعيا وحيوانا سياسيا وحيوانا مفكرا فإنه أيضاً حيوانا اقتصاديا, فكوستا باراناتس لم يدرس علم الاقتصاد ولا يملك أي مؤهل علمي له ارتباط بالاقتصاد, وإنما كان سلوكه لاحتكار السوق سلوكاً طبيعياً حفزته رغبته الداخلية في تحقيق ذاته وبلوغ الثراء الذي سيكون سبيله نحو القوة والسيطرة.

 واستطاع المتخصصون في علم الاقتصاد أن يصنعوا لنا قاعدة عامة تتعلق بسلوكيات العرض والطلب والمرونة المتعلقة بهما عن طريق تعريف عام هو: مرونة سعر الطلب هي نسبة تغيير في الكمية المطلوبة بالنظر إلى نسبة التغيير في السعر, وبتعريف رياضي بحت: مرونة سعر الطلب يساوي نسبة التغير في الكمية المطلوبة مقسوماً على نسبة التغير في السعر.

لجأ الاقتصاديون لعلم الرياضيات واستعانوا بأدوات المنهج التجريبي لتفسير سلوكيات الإنسان الاقتصادية بطريقة علمية صارمة تتبع المنهج العلمي, واستنتجوا قواعد عامة وأشكالا بيانية تفسر لنا سلوك السوق القائم على مبادئ العرض والطلب عن طريق إيجاد علاقات رياضية بين متغيرين وهما العرض والطلب, لكي يستطيع المختص في علم الاقتصاد التنبؤ بمستقبل السوق وفق الطرق العلمية المحايدة.

ومنذ عرف الإنسان الزراعة وابتكر أدواتها التقنية البدائية وهو يتعامل مع مبادئ الاقتصاد بصورة عفوية لا منهجية غير مضبوطة بأي ضابط علمي مدفوعاً بغريزة البقاء والاستمرار, فهو يحتكر السلع ويفرض الأسعار ويهاجر لبلاد أخرى بحثاً عن الأسواق التنافسية الحرة, ويقوم بتسخير البشر والحيوان والطبيعة في سبيل تحقيق أهدافه الاقتصادية, وفي العصر الحديث أصبحت كل هذه السلوكيات المدفوعة برغبة الإنسان نحو البقاء والقوة والسيطرة ترضخ للمنهج العلمي فهناك قوانين رياضية تفسر السوق الاحتكاري والسوق التنافسي, وهناك أشكال بيانية تدرس مدى مرونة السعر وعلاقته بمتغيري العرض والطلب.

والقول بأن الإنسان حيوان اقتصادي يجرنا نحو قول أخر يصف الإنسان بأنه حيوان ناطق, مع أن هذا الوصف كان دوماً موضع خلاف ومعناه الواسع: هو إضفاء صفة التفكير على الإنسان والنطق بما يفكر فيه بعد فهمه وإدراك كلياته.

وقد قام الجاحظ بمبادرة في غاية الدقة فهو يقيم التفرقة بين الإنسان والحيوان على أساس جديد من الفصاحة والعجمة وليس على أساس النطق والصمت, فالجميع من وجهة نظر الجاحظ ناطق إلا أن الحيوان لا يفهم إرادته من نطقه إلا بنوع جنسه أما الإنسان ففصيح مهما استخدم من لغة غير لغته وإرادته مفهومة للناطقين بلغته أو بغير لغته.

وقد قام الجاحظ بتفرقته تلك بين الإحساس الذي ينبني عليه ما يأتيه كل من الإنسان والحيوان من أعمال بمبادرة في علم النفس الذي لم يعرف في عصره, فهو يبني أفعال الحيوان على الغريزة, ويبني أفعال الإنسان على إمعان فكر وتدبر وتعليم وتدريب.

ونريد هنا أن نتجاوز محيط السلوك الغريزي للنطق والأغراض الأولية للتواصل, والحديث عن الوجه الإبداعي للغة الذي يستعمله المتكلم لأداء أغراض تضاف إلى حاجته الأولية في التواصل, فهل الخصائص التي تميز لغة عن أخرى هي متساوية في كل الأحوال وخاصة تلك المتعلقة بالجانب الإبداعي في اللغة والتي يستعملها الأدباء والمبدعون في أعمالهم الإبداعية.

واللغة منتج بشري أي أن لكل شعب لغته الخاصة وتجربته الإبداعية الخاصة, وكما أن لكل شعب تجربته اللغوية الخاصة فإن كل لغة لها خصائصها الفنية والصوتية والبلاغية التي لا يمكن أن تتساوى مع خصائص لغة أخرى كما يدعي بعض اللسانين العرب في العصر الحديث, ولو وضعنا هذا الإدعاء على طاولة المنهج التجريبي العلمي لخرجنا بنتيجة قطعية تقول بأن هذه القول ليس إلا هرطقة فكرية لا أساس لها من العلم, ونحن حتى الأن لا ندعي أفضلية لغة محددة على أخرى.

تميز الاقتصاديون على اللسانيين حيث أنهم صنعوا منهجاً علمياً راسخاً لكل سلوكيات الإنسان الاقتصادية, في حين عجز اللسانيون العرب حتى اليوم عن طرح أي تبرير علمي لمبدأ المساواة بين اللغات, مع الأخذ في الاعتبار بأن بعض اللسانيين العرب يفضلون اللغة الإنجليزية على العربية ويعتقدون بأن اللغة العربية لا تتساوى مع اللغة الإنجليزية في مجال التطبيقات العلمية والتقنية الحديثة, وهم هنا ينقضون دعواهم ومبدأهم الذي طالما تغنوا به وهو: مبدأ التساوي بين اللغات.