الحقوق والواجبات الشخصية المدنية!

أود أن أضع تحت الأنظار صورتين متباينتين لأمة اليونان القديمة ، وأمة العرب قبل بزوغ فجر الإسلام ، لتروا بأعينكم وتلمسوا بأيديكم ، إلى أي حد وفق دين الفطرة والهدى والحق إلى صبغ جزيرة العرب بالصبغة “الديمقراطية” إذا جاز أن يكون هذه هي المفردة الصحيحة – أما بالنسبة لنا فهو صبغها بما يتوافق مع الفطرة الانسانية كاملة – “ما يتوافق مع الفطرة” بالحق والحرية والعدل وطبع أهلها بطابع المساواة.

كانت اليونان القديمة بطبيعة تكوينها ومزاج أهلها مهدا صالحاً للديمقراطية ، فقد كانوا يقيمون بالمدن ولا مشاحة في أن المدن هي مواطن الديمقراطية. وكانت ميول اليونانيين متجانسة ، ومشاعرهم منسجمة ، ومصالحهم متحدة ، غير متنافرة تجمعهم ذكريات تاريخية مشتركة ، وتؤلف بين قلوبهم مثل عليا واحدة.

على النقيض من ذلك تماما ًتجد سكان الجزيرة: فقد كان العرب يسكنون مضارب الخيام ، وانقسموا إلى شيع وقبائل. وكانت أهواؤهم متفرقة ، ومصالحهم متنافرة ، بل كانت المنازعات بينهم سلاسل متصلة الحلقات ، والحروب متواصلة الضروب.

ومن ينكر اعتزاز العرب بالعصبية؟!

ومن ينسى تطاولهم بالأحساب والأنساب؟!

ومن ذا الذي لم يمتلأ سمعه بأخبار مفاخرتهم ومكاثرتهم ومنافرتهم؟!

فأنت ترى من هذه الصورة أن جزيرة العرب لم تكن المهاد الصالح لنمو شجرة الديمقراطية ، والعرب لم يكونوا القوم المستعدين لإساغة تعاليم الديمقراطية وهضمها وجاء الإسلام فنشر رايته راية “الفطرة الانسانية السليمة” وتجاوزاً نقول راية الديمقراطية السليمة ، وبث مبادئ الأخاء والمساواة، لا لأن الجو كان مهيئا ًلها ، ولا لأن العقول كانت مستعدة لهضمها ، ولا لأن الإسلام شاء ان يتمشى مع العرب في رغباتهم ، ومنازع نفوسهم ليصم الأولياء ، ويكسب الأنصار ، ولـكن لأن الإسلام جاء فألقى بذور الفطرة السليمة (الديمقراطية السليمة) ، لأنه دين الفطرة ، لأنه دين الإنسانية الطامحة إلى الـكمال ، لأنه الدين الذي اخذ نفسه ببث احكم المبادئ، وغرس أقوم الأحكام.

اجل، لقد حمل الإسلام راية الأخاء وأهاب باتباعه: “إنما المؤمنون اخوة” ، “والمؤمنون بعضهم أولياء بعض”، “وعبيدكم الذين هم ملك يمينكم إخوانكم في الدين”.

نعم، لقد رفع الإسلام لواء المساواة ، وأذن في أنصاره: “لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى” ، “والناس سواسية كأسنان المشط”.

ولم يقف الإسلام عند حد تلقين اتباعه مبادئ الإخاء والمساواة نظريا ً ، بل راضهم عليها عمليا ً ، فشرع لهم الأحكام القائمة على الإخاء والمساواة ، واراهم القدوة الصالحة ، والأسوة الحسنة ، فطبعت قلوبهم على الإخاء ، وأشربت نفوسهم حب المساواة ، حتى صاح أعرابي في وجه عمر صيحته التاريخية الخالدة ، ولم يتعثر ، ولم يتلجلج: “لو وجدنا فيك اعوجاجا ًلقومناه بسيوفنا”.

وسنرى مع هذه الشعلة المضيئة ونور الله المبين ماذا حدث أن انتشرت ضياء هذه الشعلة المباركة!!