لقد انعكس أثر ما أحرزته العلوم الطبيعية من تقدم منذ القرن السابع عشر على العلوم الإنسانية, ولما كان من أسباب هذا التقدم انتهاج العلوم الطبيعية ما يعرف بـ “المنهج التجريبي” فقد تساءل علماء الإنسانيات عن مدى إمكان تطبيق منهج العلوم الطبيعية على علوم الإنسان لتحرز هذه بدورها تقدماً مماثلاً.

وقد انعكست هذه النزعات الطبيعية والاتجاهات العلمية على الدراسات التاريخية في محاولة لإخضاع الوقائع التاريخية للنقد العلمي والمنهجي واستبعاد أية قوة غيبية في تحديد مسار التاريخ.

وأصحاب هذه النزعة حاولوا قدر مستطاعهم تقريب الفجوة بين التاريخ والعلم الطبيعي للوصول لقوانين عامة وأحكام كلية لها صفة العموم والشمول ومن ثم تمكن من التنبؤ بما سيحدث في المستقبل, وأصبحت هذه النزعة تنشد أن يصبح التاريخ علماً بالمعنى الفيزيقي للعلم, وبذلك يستطيع المؤرخ على سبيل المثال أن يفسر اغتيال يوليوس قيصر كما يفسر الجيولوجي وقوع زلزال.

وهذه الآمال والأحلام للارتقاء بالإنسانيات لمستوى العلوم الطبيعية التي تنتهج الطريقة العلمية الصارمة “المنهج التجريبي” لم تقتصر على التاريخ بل تجاوزتها نحو علم الاجتماع, فقد كان الفيلسوف الفرنسي أوجست كونت يحلم بتأسيس علم الاجتماع على شاكلة العلوم الفيزيائية, في وقت كان العلم هو وحده القادر على إغراء شتى ضروب العلم الإنساني بعد أن تصدعت سلطة الدين والفلسفة في أوروبا.

وإذا كان أوجست كونت قد حدد موضوع علم الاجتماع فإن “إميل دوركهايم” قد حدد قواعد المنهج في كتابه “قواعد المنهج في علم الاجتماع” التي إستلهم منها مؤسس اللسانيات البنيوية فرديناند دوسوسير مبادئ المنهج البنيوي لدراسة اللغة وهو ما يعكس الرغبة القوية عند الباحثين اللسانيين الأوائل الذين كانوا يطمحون بدورهم إلى بناء علم صارم صرامة المنهج التجريبي الذي لا يعترف إلا بالتجريب والضبط الدقيق, فما لا يقبل التجريب لا يدخل في عداد العلم الوصفي التجريبي.

فأول شيء كانت ترمي إليه اللسانيات هو أن تشق طريقها كعلم, منهجاً وموضوعاً, وتستقل عن الفلسفة على غرار بقية العلوم الأخرى ذات النزعة الوضعية, فاتخذت اللغة موضوعاً وأداة في الوقت نفسه.

ولما كانت اللسانيات تسعى سعياً حثيثاً لكي تأخذ مكانها في الخارطة العامة للعلوم فإنها نظرت إلى الدراسات السابقة عليها كالنحو المقارن على أنها دراسات غير علمية وعقيمة عرقلت مسار تطور الدراسات اللغوية بشكل علمي.

وقد اتفق اللسانيون من الناحية المبدئية على أن اللسانيات هي الدراسة العلمية للغة, وهذا الاتفاق يتضمن بأن تتوشح اللسانيات بوشاح “العلم” وتلبس ثوب “المنهج التجريبي” ويتم تعريفها بأنها التوجه العلمي الوحيد لفهم اللغة, وهذا التوجه قد يضمن إعجاب الناس بها ويضمن لهم بالتالي مركزاً سامياً بين حقول العلم.

وقد نجحت اللسانيات بتمسكها بقضية تبقيها دائماً تحت أنظار الجمهور عن طريق تبنيها شعارات الحياد العلمي والسعي لإزاحة التراث بصفته عائق نحو تقدم اللغات, وإلتزامها بدعوتها الأبرز وهي الترويج إلى مبدأ التساوي بين اللغات, ومع أن هذا المبدأ لا يتجاوز كونه “محض أسطورة” فقد كان للالتزام به تأثيره الإيجابي على نموها في المدى البعيد, فهذا المبدأ قد يراد منه أحياناً التأكيد على الحيادية والبعد عن التعصب العرقي.

يقول الدكتور مصطفى غلفان: “نعتقد بأن عبارة –علم اللغة- ملتبسة وغير دقيقة. ذلك أنها تسمية تشمل ليس اللسانيات فقط, وإنما كل العلوم التي تتناول اللغة من بعيد أو قريب. لقد قلنا سابقاً بأن اللغة بمعناها العام ليست من اختصاص اللسانيات وحدها, وإنما هي مجال مباحث أخرى. ألا تستحق هذه المجالات لقب –علم اللغة-؟ ألا تدرس الفيزياء أصوات اللغة دراسة علمية؟ والأمر يصدق على علم النفس والمنطق والرياضيات. فهذه المجالات تدرس اللغة دراسة علمية وبالتالي, فإن تسمية –علم اللغة- تنطبق عليها…. وفي رأينا أن أساس الخلط والغموض هو التعريف العام الذي يعطى للسانيات: اللسانيات هي الدراسة العلمية للغة”.

ويضيف: “أما اللسانيون العرب بمختلف اتجاهاتهم الذين يعتبرون اللسانيات تفكيراً لغوياً جديداً لا علاقة له بالفكر اللغوي القديم, فإنهم لم يقدموا بدورهم أي بديل لساني حديث للانتقادات التي وجهوها للفكر اللغوي القديم, فضلاً عن أنهم لم يتقيدوا كلياً ببعض مبادئ الدرس اللساني الحديث. ولم يتجاوزوا في تعاملهم مع اللغة العربية حدود معطيات النحو العربي القديم نفسها. ولم يتمكن الفكر اللساني العربي الحديث من خلق ثقافة لسانية حديثة فاعلة في المحيط العربي فكرياً واجتماعياً, على غرار ما فعل النحو العربي قديماً وحديثاً, ومن ثم لم يتمكن الفكر اللساني الحديث من ملء الحيز الفكري الهام الذي كان وما يزال الفكر اللغوي العربي القديم يتمتع به في ثقافتنا العامة والخاصة”.

ومن المؤسف أن بعض اللسانين العرب وظفوا “اللسانيات” توظيفاً خرج به عن مقاصده, مما جعل هناك كثيراً من الريب حول اللسانيات حتى ظن الناس بأن هناك بواعث سياسية وبواعث دينية ومذهبيه من وراء الاهتمام بهذا الحقل.