إشتدت الحركة الشعوبية في العصر العباسي وخاصة العصر الذي عاش فيه الجاحظ, حيث تعددت الشعوب في المجتمع العباسي من فرس وروم وزنج وهنود إلى جانب العرب الذين يمثلون الأمة الحاكمة, فكانت محاولة هذه الشعوب إثبات وجودها والإدلال بمآثرها وحضاراتها والبرهنة أن العرب ليسوا أفضل من سائر الأمم بل هم دونها شأنا, ودأبت على التنكر تنكراً مطلقاً لكل ما هو عربي وتحط من قيمته وشأنه, مع تفضيل كل ما هو غير عربي أيا كان نوعه وصورته, وتجريد العرب ولغتهم ما يتمتعون به من مزايا وخصال, ومن مواهب وكفاءات.

ولا ينسى التاريخ موقف الجاحظ من هذه الحركة العدائية, وسخريته منها إما بشكل مباشر أو مبطن, ونرى أن الجاحظ بقوته الأدبية وثقافته الموسوعية الهائلة وحججه الدامغة إستطاع أن يردع هذه الحركة وينتصر للغة العربية من ألد خصومها, ويطرح البراهين والقرائن على إنحراف مذهبهم.

ومن أطرف المأخذ على الخطباء العرب تلك التي أوردها الجاحظ في كتابه (البيان والتبيين) والمتعلقة بالعصا, فقد طعنت الشعوبية على العرب أخذهم العصا عند إلقاء الخطب, وإحتجت بقولها إنه لا يوجد بين العصا والخطبة سبب, وأن العصا لم توجد للخطابة بل للقتال أو الهش على المواشي, وأنها لا تنفع الخطيب في شيء.

وقالوا: أن العرب قوم رعاة إعتادوا على حمل العصا في رعي مواشيهم فنقلوا تلك العادة إلى خطابتهم, وطعنت الشعوبية على العرب ضعف ملكتهم الخطابية, وقالت إنهم لا يضاهون الفرس واليونان والهنود في مضمار الخطابة والبلاغة.

فقام الجاحظ بتخصيص قسماً من كتابه يحمل عنوان (كتاب العصا) أورد فيه مطاعن الشعوبية على العرب والرد عليها بتقديم الكثير من الخطب العربية الأصلية وكأنه يتحدى الشعوبيين أن يأتوا بمثلها أو بما يشابهها, ويحمل على عاتقه عبء الدفاع وإن ثقل عن موقف حضاري, ليعكس بذلك وفاءه للمبادئ التي أمن بها, فراح يدافع عنها دون أن يدفع إلى ذلك إلا بما يدور في قناعاته من ثوابت تجاه تاريخ أمته العريق فلم يشغل بما شغل به غيره من تبني الموقف الرسمي لإرضاء خليفة ما, في الوقت الذي كانت فيه سطوة الشعوبية لا تحد, وهيمنتهم على مقاليد الأمور لا تجارى.

أصبحت صيغة الحياة العربية رهناً بحركة التجديد الحضاري واللهاث وراء كل ما هو غريب ووافد على البيئة من خلال نزعة تجديد لا مبرر لها إزاء أمة مفتوحة راحت تتطاول عليهم بهذا الكم من صور السخرية والتهكم مع ما يضاف لها من المطاعن حول المواقف اللسانية التي تنطلق من سياق الإبداع في فن القول, نثراً كان أو نظماً, ثم تلك المشاهد الحركية التي أدارتها الشعوبية سفاهة حول فكرة العصا أو لبس العمائم أو غير ذلك من طرائق راحت الشعوبية تترصدها وتسجلها قصد النيل من حضارة العرب.

ويحاول الجاحظ في كتابه كشف الوجه القبيح للشعوبية عندما عرض تلك المزاعم المتمثلة في سرد الشعوبيين لنقائص العرب ورسم صورة ذهنية نمطية تحمل من الدونية ما تحمل إذا قورنت بما للفرس من مفاخر.

فيقول متحدثاً بلسان الشعوبية: ” فكيف سقط على جميع الأمم من المعروفين بتدقيق المعاني وتخير الألفاظ وتمييز الأمور أن يشيروا بالقنا والعصا والقضبان والقسي, كلا, ولكنكم رعاة بين الأبل والغنم, فحملتم القنا في الحضر بفضل عادتكم لحملها في السفر, وحملتموها في المدر بفضل عادتكم لحملها في الوبر, وحملتموها في السلم بفضل عادتكم لحملها في الحرب, ولطول إعتيادكم لمخاطبة الإبل جفا كلامكم وغلظت مخارج أصواتكم حتى كأنكم إذا خاطبتم الجلساء إنما تخاطبون الصمان”.

فقد أدركوا أيضاً إداركاً جيداً قيمة اللغة العربية وأهميتها, لا من خلال ما تحتله من منزلة سامية لدى المسلمين عرباً وغير عرب فحسب, بل كذلك من خلال ما آلت إليه من هيمنة إيجابية شاملة على العالم الإسلامي الجديد حيث غدت اللغة العربية اللغة الرئيسية للأدب والدين والفلسفة والفن والسياسة بل غدت الوعاء الكلي الأوحد للثقافة الجديدة السائدة, وإنطلاقاً من هذا راحت الشعوبية تعمل جاهدة على إفساد هذه اللغة والنيل منها متخذة لذلك وسيلتين أثنتين, وسيلة العبث بها من الداخل, ووسيلة التهجم عليها من الخارج.

أما وسيلة العبث بها من الداخل فتقوم على تشويه بنيتها المتمثلة في أصولها وقواعدها ونظمها وطرائقها وأساليب بنائها, بغية إفقادها فصاحتها الأصلية وبلاغتها الأصلية, اللتين تمثلان روحها الفذة واللتين يكمن فيهما سر عظمتها وخلودها.

وأما وسيلة التهجم عليها من الخارج, فتقوم على نقدها نقداً تجريحيا سالباً, يتوخى إلصاق مختلف العيوب والنقائص الفنية بها وذلك بهدف تجريدها مما هي محاطة به من هالة قدسية جليلة حتى يتم إظهارها بمظهر اللغة العادية التي لا ميز لها ولا تفرد على الإطلاق.

وفي العصر الحديث ثارت حركات مناهضة للغة العربية, كرست كل جهدها وطاقاتها في سبيل التندر بها والتقليل من شأنها, فقد واجهت اللغة العربية تحديات شرسة لإضعافها وتفتيتها إلى لهجات محلية مشوهة من قبل المناهضين لها, ولإضعاف الإنتماء إليها والعمل على إقصاء اللغة العربية وإحلال لغة بديلة في التعليم والثقافة والتعامل الرسمي أو إعتماد اللهجات المحلية لغة بديلة وإستبدال الأحرف اللاتينية بأحرفها في الكتابة.

سيطول الحديث في سبيل حصر مميزات وخصائص اللغة العربية التي فاقت بها غيرها من اللغات, فهي اللغة السامية الوحيدة التي قاومت كل عوامل الضياع والإندثار بفضل ما تملكه من مرونة كبيرة على الإشتقاق وقدرة رفيعة على الإعراب مما يجعلها قادرة على مواكبة كل جديد وطارئ, فهي لغة نادرة وعجيبة وتملك مقومات البقاء والإستمرار والمقاومة فقد كرمها الله سبحانه وتعالى وجعلها لغة قرآنه الحق, أي لغة وحيه وتنزيله الإلهيين, كما جعلها لغة أهل جنته المخلدين.