قال بأن كل لبناني يجب أن يكون تاجراً وشيئاً أخر, حتى إذا كان شاعراً, فهو تاجر بعد ذلك أو يريد أن يكون, فكانت الرغبة الجامحة في التجارة هي الباعث الذي حدا بهم للهجرة الجماعية إلى أميركا منذ قرن كامل تقريباً, لا يحملون مالاً ولا يفهمون لغة البلاد التي نزلوا فيها ولا يعرفون شيئاً عن أحوالها وعادات سكانها, فأعتمدوا على ذكائهم ونشاطهم وإقدامهم وقبضوا بعد مرور سنوات قليلة العدد على ناصية التجارة.

يقول الأستاذ أنيس نصر: (ولقد ذللوا كل صعب وتعلموا لغة البلاد التي يعملون فيها وأنشأوا الصحف اليومية الكبرى في مختلف لغات العالم, وأسسوا الصحافة العربية في بلادهم وفي مهاجرهم وما زالوا إلى اليوم أمراءها المجلين …).

وكما يقول المثل (لكل قاعدة شواذ) فأظن بأن التاجر الذي هجر موطنه وشد رحاله ناحية أرض الكنانة, مصر مليكة الشرق “كما يصفها” شاعرنا.

كان عمره عشر سنوات, جاء إلى مصر باحثاً عن لقمة العيش, فوجدها في كشك سجاير, كان يبيع ويتجول في الطرقات والأزقة, ولا أحد يدري بأن حياة الصعلكة تلك, هي المدرسة التي تخرج منها شاعرنا, شاعر المهجر الكبير “إيليا أبو ماضي” الذي يعد أحد أفضل الشعراء العرب في القرن العشرين إن لم يكن أفضلهم على الإطلاق وبلا مبالغة.

ففي بلاد مصر بزغت موهبة شاعر موهوب, يعيش بجسده في القرن العشرين بينما يعيش عقله وفكره في العصور العباسية السحيقة, شاعر قضى جل وقته يدق أبواب الشعراء والمثقفين وفي الوقت ذاته يسرح بسجائره خلف لقمة العيش المضنية.

فشلت تجارته المتواضعة, فهي بالكاد توفر له قوت يومه وتضمن له الحد الأدنى من العيش الكريم, حينها بات لزاماً عليه الإنتقال إلى أمريكا, قبلة التجار العرب عموماً واللبنانيين خصوصاً, وهناك بزغ نوره, ليس كتاجر كما أراد ولكن كشاعر مرموق حير النقاد والشعراء بمقدرته الفذة وفلسفته الشعرية العميقة التي قال عندها حسين هيكل حين قرأها: إن هؤلاء الشوام قد تقدمونا في المعاني والصور الجميلة, ولا عيب فيهم إلا أنهم متأمركون, وما لم نستدرك ما فاتنا فسوف يكون الشوام هم شعراء الأمة العربية.

فقد إستطاع بأسلوب يتميز بالبساطة والوضوح أن يعبر بأوضح الكلمات وأبسطها عن أدق الأفكار وأعمقها وأن يجعل من شعره خميرة فكرية وروحية ليست للنخبة المثقفة فحسب, بل لعامة الناس, حيث كانت قصائده تمتاز بعفويتها وبساطتها وتنساب من القلب والفكر بلغة سهلة الألفاظ واضحة المعاني عميقة الدلالات, ولن يضرها أو يقلل من شأنها كل المحاولات المسيئة التي تعرض لها شاعرنا والتي كان أهمها على الإطلاق ما قاله ناقد بحجم طه حسين الذي طلب منه أن يتعلم مبادئ النحو وقواعد اللغة.

وفي أمريكا, إلتقى أبو ماضي بشعراء المهجر الكبار كجبران خليل جبران وميخائيل نعيمة ونشأت فكرة تأسيس الرابطة القلمية التي كان لها الدور الكبير في إبراز النتاج الفكري والأدبي للمهاجرين, على أن من الإنصاف لتاريخ الحركة الأدبية في المهجر أن نشير إلى أن الذي بعثها وأحياها ونقلها من جوها المحدود إلى الجو العربي في مشارق الأرض ومغاربها, إنما كان أديب المهجر الكبير جبران خليل جبران, ولكن وجود شاعر بحجم إيليا أبو ماضي كان إضافة هائلة لهذه الرابطة وسبب من أسباب شهرتها.

وفي أمريكا لم يحقق أبو ماضي شيئاً مما كان يريد, فلم يكن تاجراً غنياً ولم يجد في مهجره ما يكفل له العيش الرغيد, ولم يجد العزاء الوجداني أو الإتزان النفسي وراحة البال التي ينشدها, ففاضت روحه بقصائد تبكي الصخر, فكان نموذجاً للحيرة والغربة, فهو اللبناني الغريب بين اللبنانيين وهو العربي الغريب بين الأمريكيين, يفكر في الحزن وسط البهجة, يحاول أن يجد المال فلا يجده, فكان حصيلة هجرته الكثير من الأسئلة المحيرة, وقد إتضح ذلك جلياً في أطول قصائده وأكثرها أهمية وعمقاً وفلسفة وهي قصيدة “الطلاسم” حين يطرح أعمق التساؤلات عن مصير الإنسان في هذا الكوكب المتطاحن المكتظ بالحروب والقتل والغارق في بحر الدماء, عن الظواهر الكونية والطبيعية وعن التجليات الاجتماعية والفكرية, عن الفقراء والبائسين والمعدمين ولكنه لا يجد لها سوى جواب واحد “لست أدري” إنه لا يثبت ولا ينفي بل يسير متأرجحاً على طرق الإحتمالات واللا أدرية, متعلقاً بأشواك الشك والحيرة والقلق النفسي والوجودي الذي لا يهدأ ولا يستكين.

إيليا أبو ماضي وكما يتضح من قصائده, شاعر يطيل التفكير والتأمل في الكون والطبيعة, في المجتمع والإنسان, في الحياة والموت وما بعد الموت, لقد صهرته المحن وحنكه الزمن, فروض نفسه على فلسفة الرضا والحب والدعوة إلى الإخاء والمساواة حتى لا يشعر الفقير بهوانه ولا الصغير بقلة شأنه, وحث على البر والمودة علهما يكفكفان دموع البائسين ويواسيان أحزان المنكوبين, إنها فلسفة نبعت من صميم تجاربه وكان لها أثر عميق في شعره ورسالته.

جاء إلى المهجر يحدوه الأمل الباسم والأحلام العذبة ويستحثه إعتزازه بنفسه ومواهبه, فلم يرى في المهجر سوى ناراً تكوي الأحشاء, فقدم لنا أروع القصائد في الحنين إلى الوطن والمنبت, وقدم لنا تجربة شعرية غزيرة بكل المعاني الإنسانية التي تستهدف سعادة المجتمع وتحبب الحياة إلى الأحياء وتدعوهم إلى تنقية العمر من الأشواك والأدران, لذا كان النقاد يسمونه شاعر الأمل والتفاؤل.

ولكن من يقرأ قصائد إيليا أبي ماضي ويسبر أغوارها فسوف يجد أنه كان متشائماً ويعمد إلى تغطية تشاؤمه العميق فلسفياً بشئ من التفاؤل السطحي إجتماعياً, ربما كان متشائماً, وأنا أرجح هذه “الربما” وقد يكون من الأصح أن أستعير الجواب من طلاسمه لأقول: لست أدري.