لقد كُتِبَ الصيام على المسلمين كما كُتِبَ على الأمم قبلهم “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ”.
جاء في العهد القديم إشارات كثيرة إلى صيام الأنبياء وصيام غيرهم من أهل الكتاب ، ففي سفر الخروج أن موسى عليه السلام “كان هناك عند الرب أربعين نهاراً وأربعين ليلة لم يأكل خبزاً ولم يشرب ماءاً”. وفي سفر الملوك أن النبي إيليَّا “سار بقوة تلك الأكلة أربعين نهاراً وأربعين ليلة إلى جبل حوريب”. وفي انجيل متى من العهد الجديد أن السيد المسيح صام أربعين يوماً في البرية.
وقد راجع الباحثون العصريون أخبار الصيام والاضراب عن الطعام المحققة فاستدلوا بحادث محافظ كورك “تيرنس ماكسويني” على أن الجسم يحتمل البقاء بغير الطعام أربعة وسبعين يوماً إذا لم ينقطع كل الانقطاع عن الشراب ، لأن المحافظ المذكور أمسك عن الطعام في الثاني عشر من أغسطس وبقي ممسكاً عنه إلى الخامس والعشرين من أكتوبر 1920 م ، ولم يغب عن وعيه غير أيام قبيل وفاته ، ولم يكن من أصحاب القوة البدنية البالغة ، بل كان وسطاً بين القوي والهزيل.
هذا دليل يشجع من يتعللون بالخوف على الصحة وبعدم القدرة على صيام ساعات معدودة في اليوم لأيام معدودات في السنة. وهذا دليل آخر معاصر ففي سنة 1942 م لجأ أحد الدعاة السلميين إلى الصيام احتجاجاً على تجنيده ، فلبث ستة وأربعين يوماً ثم قال الطبيب بمعسكر ماريلاند عند فحصه أنه كان على حالة حسنة – جسداً وعقلاً – وإن كان قد تعرض للجفاف والهزال. وفي سنة 1943 م صام “بهانسالي” أحد أتباع غاندي واحداً وستين يوماً ولكن الأطباء عمدوا في الأيام الأخيرة إلى اطعامه قسراً بالحقن المغذية “المحاليل” وهو مصر على رفض كل طعام.
والأنباء متواترة عن صيام الأنبياء والنساك على هذا النحو أياماً متوالية ، ولكن كما قلنا الصيام الوحيد الذي فرضته الشريعة في العهد القديم هو صيام يوم الكفارة “عاشوراء” ، وعقوبة من يخالف هذه الفريضة الموت والقطع من الأمة.

ولم يرد في دين من الأديان الكتابية أمر بالانقطاع عن الطعام أو الشراب أيام متوالية ، بل نهى النبي عليه السلام عن الصوم الوصال ، واختار بعض الطوائف المسيحية صياماً عن اللحوم وما إليها اقتداء بالنبي حزقيال حيث جاء في كتابه “خذ لنفسك قمحاً وشعيراً وفولاً وعدساً ودخنا وكرسنة وضعها في إناء واحد ، وطعامك الذي تأكله يكون بالوزن ، وتشرب الماء بالكيل” ، أو اقتداء بالنبي دانيال حيث قال: “وفي تلك الأيام أنا دانيال كنت نائحاً ثلاثة أسابيع لم آكل طعام شهياً ، ولم يدخل في فمي لحم ولا خمر ولم أدهن حتى تمت ثلاثة أسابيع” ، أو اقتداءاً بالنبي داوود إذ يقول حسبما جاء في الترجمة السبعينية: “ركبتاي ضعفتا من الصوم ولحمي تغير من أكل الزيت”.

هذه الأنواع المختلفة من الصوم جميعاً كانت معهودة في الأمم من قبل ، وكان منهم من يصوم عن أصناف من الطعام ، ومن يصوم عن الطعام والشراب ساعات ، ومن يصوم عنهما منمطلع النجم إلى مطلعه في اليوم التالي ، ومن يصوم عن الكلام إلا أن يكون تسبيحاً أو دعاء لله. فللسيدة مريم العذراء كان: “فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيْنَ مِنْ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّا” ، ولسيدنا زكريا خاصة عندما بشره الله بيحيى: ” قَالَ رَبِّ اجْعَل لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيّاً”.

أما هذا العصر الحاضر فإنه بدعة العصور قاطبة ، فقد عرفنا فيه أنواع وألوان من الصيام إيمانا بالجسد ، وقلما عرفنا نوعاً أو لوناً من الصيام إيماناً بالروح.
بل عرفنا أناس يصومون شهر رمضان ليجمعوا بين الصوم والنوم ، ويحسبوا الليل كله سحوراً من مطلع النجم إلى مطلع النهار ، وهؤلاء من عنيناهم عند الكلام عن رصد وجمع السلع التموينية والأطعمة والحلويات والدسم والمغريات والياميش والخشاف وكل ما لذ وطاب بالزيادة.

لكن الصيام في الاسلام ركن تعبدي ذو مراتب ثلاث.

فالمرتبة الأولى: هي الإمساك عن الطعام والشراب والشهوة خاصة فحسب ، وهذا هو الصوم الظاهر الذي يكتفي أكثر الناس به ، ويظنون أنهم أدوا به الواجب ، وخرجوا به من العهدة.

والمرتبة الثانية: وهي المرتبة الأولى مضموماً إليها صوم الجوارح عن ارتكاب الآثام ، فصوم اليد امساكها عن الإيذاء وتناول المحرمات ، وصوم الرِجل إمساكها عن السعي إلى الفساد والمشي إلى ما يغضب الله ، وصوم اللسان امساكه عن قول المنكر ، وعن اللغو والكذب والهذيان والغيبة والنميمة والفحش والمراء وزور الكلام ، وصوم الأذن إمساكها عن الإصغاء إلى الإفك واستماع الأكاذيب ، والإنصات إلى المشائين بالنميمة ، وصوم العين إمساكها عن النظر إلى المحرمات والحرمات ، والتطلع إلى الأسرار ، وفي ذلك كله يقول الرسول عليه صلوات الله وسلامه: “الصوم جنة ، فإذا كان أحدكم صائماً فلا يرفث ولا يجهل ، وإن إمرؤ قاتله أو شاتمه فليقل: إني صائم ، إني صائم”.

أما المرتبة الثالثة: فهي تجمع الأولى والثانية في كل ما تقدم مع صوم القلوب ، وتطهيرها عن كل ما لا يناسب الإيمان ولا يلائم الاخلاص ، فالتفكير في الخطايا وتدبير الفتن إفطار ، والتوجه إلى غير الله بالقصد والرجاء إفطار ، وصرف الهمة في دنيات وتوافه الأمور إفطار ، والحقد والحسد إفطار ، وترك المعروف بهجر إفطار ، والسكوت عن المنكر يرتكب إفطار ، والتهاون في إقامة الحدود والمراجعة ورد المظالم إفطار ، والتلاعب بالمصالح العامة إفطار ….. وهكذا.

تلكم أيها المسلمون الصائمون مراتب الصيام فإرتقوا معها طمعاً في الإحسان ، وإذا كان الفقهاء قد تمسكوا بظواهر النصوص فقالوا بصحة الصوم بمجرد الإمساك عن الطعام والشراب والشهوة وهي المرتبة الأولى ، فذلك لأنهم يشرحون صوم المؤمنين ، ولا يفوتكم أن من قضية الإيمان السابقة للصوم – قبل الصوم – كف الجوارح عن الآثام ، وتطهير القلوب عن التفكير فيما لا يناسب الإيمان ، هذا كأصل من أصول الإيمان ويزيد عليها قضية الإمساك عن الطعام والشراب والمعنى الجنسي ، وقد أفصح رأي العلماء الذين عرفوا روح الشريعة ، وأدركوا أسرار الدين أن هذه المرتبة – المرتبة الأولى – من الصوم لا تعتبر ولا تعد شيئاً مذكوراً ، وأن الصوم الذي أمر الله به وكلف به عباده لا يتم إلا إذا صامت مع البطن والفرج الجوارح والقلوب ، وقد روي جابر عن أنس – رضي الله عنه – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “خمس يفطرن الصائم: الكذب والغيبة والنميمة واليمين الكاذبة والنظر بشهوة” ، وقد صح عنه عليه صلوات الله وسلامه أنه قال: “كم من صائم ليس له من صومه إلا الجوع والعطش”.

وكما بدأنا وقلنا أن الصوم تكليف تعبدي ، نعيش مع إيضاح معنى “التكليف التعبدي” إن شاء الله في المقالة القادمة وفقنا ووفقككم الله إلى صوم مقبول.