ولمن يجعلون من رمضان عيداً للطعام والأطعمة والغذاء والتغذية والتحلية ، نتعجب من أمرهم ومن فهمهم لهذه الفريضة فهل لم يقرؤا وإذا كانوا لا يقرؤون فهل لم يسمعوا قول الله عز وجل “كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ” ، “يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ” إنها أيام الصيام وأيام التضحية في الدنيا وعفة النفس ، إنها أيام الصوم التي تركوا فيها الأكل والشرب وأيام الطاعة طاعة الله في عدم الاسراف في الأكل والشرب إلا من الطيبات بدون اسراف فأرادوا حب الله ورضاه. وهل تأملوا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم “زكاة الجسد الصيام”.
هذا هو رمضان ، فإذا كان مما ألفه الناس أن يحتفلوا بذكرياتهم العظيمة ذات الأثر الخالد في حياتهم حين يمرون بأمكنتها ، أو تمر عليهم أزمنتها ، وكما وضحنا فإن الله سبحانه وتعالى قد رفع من شأن رمضان فرسم بنفسه سبحانه وتعالى أسلوب تكريمه ، ومظهر تعظيمة ، وجعله ركنا من أركان ديننا ، فلا مانع أبداً من الاحتفاء والاحتفال به فهو عنصر من عناصر الشخصية الاسلامية ، فالزينة والإضاءة والألوان ومظاهر الفرح والسرور مطلوبة باعتدال ، لكن استعدادات استجلاب السلع التموينية والسلع الشهيرة التي تتكون منها “الأسرة الياميشية” ، والاستهلاك المنقطع النظير للسكر والعسل واللبن في صناعة الحلوى والحلويات وصناعة الألبان فهذا أكبر مظهر من أعراض مرض “الإسراف” فكيف يكون صيام؟
فإذا كان صوم رمضان: “عبادة تلتقي في هدفها مع أهداف القرآن في تربية العقول والأرواح و”تنظيم الحياة” ، ويوحد بين المسلمين في أوقات الفراغ والعمل ، وأوقات الطعام والشراب ، ويفرغ عليهم جميعاً صبغة الإنابة والرجوع إلى الله ، ويرطب أسلنتهم بالتسبيح والتقديس ، ويعفها عن الإيذاء والتجريح ، ويسد عليهم منافذ الشر والتفكير فيه ، ويملأ قلوبهم بمحبة الخير والبر لعباد الله ، ويغرس في نفوسهم خلق الصبر الذي هو “عدة الحياة” ، وهكذا يريد الله أن يكون الإنسان. فهل يعقل ما يحدث من الناس ومعهم كل أجهزة الدولة إمعاناً في الاسراف والتبذير بعيداً عن كل خلق وهدف من أهداف رمضان؟
لكل شيء في هذه الحياة إيحاء ، فلأسماء الأشخاص إيحاء ، ولأسماء الأمكنة إيحاء ، ولأسماء الأزمنة إيحاء ، ولعل أقوى ما يربط الإنسان بماضيه وينير له مستقبله ، ويركزه في حاضره على أسس قوية وسبل بينة تكشف له سنن الخير ، وتبعده عن سنن الشر ، هو ما يتلقاه من هذه الإيحاءات.
ولنا مع الوعي القومي والإيحاء الشعبي لرمضان رحلة قصيرة في الكلمات القادمة لكننا لا نريد أن نسترسل قبل أن نذكركم بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “للصائم فرحتان: فرحة عند إفطاره ، وفرحة عند لقاء ربه” جعلنا الله من نوع هذا الصائم آمين يارب العالمين.
ولعل أقوى ما يسعد الناس ويبعث فيهم عزة وانتماء هو اتخاذ أماكن الذكريات وأزمنتها أو أصحابها أعياداً واحتفالات ينبهون بها وعيهم القومي والتاريخي ، ويقلبون فيها صفحات مجدهم الماضي ومبعث عزتهم التي عليها يحافظون ، ولعل أقوى ما بعثهم إلى ذلك هو ما يلهمون به من هذه الذكريات وتلك الإيحاءات من وسائل العزة والكرامة والتميز ، ووسائل الخير والفلاح.
هذا ايحاء قومي عزيز ، ولرمضان ايحاء قومي يشمل أمة الاسلام ، وايحاء شعبي كريم يختلف من مكان لمكان ، فرمضان لم يكن إلا اسماً زمنيا لشهر معروف في السنة القمرية ، يقع بين شعبان وشوال ، ولكن مع نزول القرآن فيه واصطفاء الله له بركن عظيم من أركان الاسلام “الصيام” فأصبح له عند المسلمين إيحاء تهتز له قلوبهم وتنشرح به صدورهم وتسمو به أرواحهم ، وتكثر خطوط إيحائه كلما اتسعت معارف الإنسان بخصائصه وحوادثه وآثاره.
وفي الحق أن لمن يريد أن يستدل على إيحاء رمضان سيعرفه ويدركه بسهوله ، إذ أن هذا الإيحاء قد امتد واتسع حتى أدرك الأطفال واستغرقهم وهم به فرحون يخرجون ويلعبون في الشوارع ويتسابقون في تقليد الكبار صوماً بمقدار من اليوم كل حسب طاقته ولو أفطر الصغير يخفي إفطاره ، وهم لا يكادون يعلمون بقدومه وحلوله حتى تراهم متمسكين ومستمسكين بالاحتفال والاحتفاء به مجموعات مجتمعين وفرادى ، ينشدوا الأناشيد ويرتلوا الأغاني ويلعبون بالفوانيس وبكل أنيس وونيس ، في الأزقة والشوارع والحواري والزوايا معلنين الفرح والابتهاج بحلول رمضان ، وكأنهم لمحوا من وراء الحجب ومن حيث لا يشعرون ما يحمله رمضان من النور والهدى ، ومن معنى التآلف والترابط والاجتماع ، فرمزوا إلى كل ذلك في حفاوة وفرحة طبيعية بريئة بالتجمع في فرح وسرور يشاركون الكبار التحضير والاستعداد ولكن بفرحة عذراء نابعة من القلب الصغير الفرح المسرور.
هذا ايحاء شعبي من البرعم والزهر إلى الأغصان والجزع والجذور في شجرة الإنسان ، ولا نعدم هنا بعد هذا الايحاء الشعبي الجميل إذن فائدة التكرار فنكرر قولنا بأن الصيام “إمساك وسياحة ورياضة للنفس والإرادة” يأتي بالخير والهدى يبدأ يومه: باسمك اللهم صمت ، وينتهي: باسمك اللهم أفطرت ، ولكن ما رأيكم لو كان الصيام “صبر” أيضاً ، وأن جميع الأعمال الصالحة مع مقادير ثوابها لا تعدل الصبر شيئاً ، وسيقول قائل كيف؟ كشف الله ورسوله للناس مقادير ثواب الأعمال ومضاعفتها من عشرة أمثال إلى سبعمائة ضعف أو إلى ما شاء الله إلا الصيام فإن الله يثيب عليه بغير تقدير. ويشهد لهذا السياق رواية “الموطأ”: كل عمل ابن آدم يضاعف ؛ الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى ما شاء الله – قال الله – إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به أي: أجازي عليه جزاء كثيرا من غير تعيين لمقداره ، وهذا كقوله تعالى: “إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ” انتهى. والصابرون الصائمون في أكثر الأقوال.
وسبق وعاد إلى هذا الاستدلال كثير من الأئمة والعلماء بأن الصوم هو: الصبر ؛ لأن الصائم يصبر نفسه عن الشهوات ، وقد قال الله تعالى: “إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ”.
وتشهد روايات كثيرة لذلك حتى أصبح العمل الذي لا يعلم ثواب عامله إلا الله هو الصيام ، وهذا المستفاد من قوله: أنا أجزي به ؛ لأن الكريم إذا قال أنا أتولى الإعطاء بنفسي كان في ذلك إشارة إلى تعظيم ذلك العطاء وتفخيمه.