قلنا: “الصوم سياحة” أليست السياحة هنا رياضة نفسية كبرى ، لأن أحسن ما يقال عن الصوم وفي حكمة الصوم كما فرضته الأديان الكتابية أنه رياضة نفسية وأنه تدريب للخلق والإرادة. ويمكننا هنا أن نعرف الصوم بأنه رياضة أيضاً؟

تدرجنا في الصيام من امساك إلى سياحة ثم قلنا رياضة ، فبدلا من الدخول إلى ذلك التعريف مباشرة دعونا نسيح بعيداً ونتريض في عمق تاريخ الصيام ونتأمل أولاً في “كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ” كان صيام مكتوب على الذين من قبلنا ولكن كانت له ألوان متعددة.

فقد كانت العبادات على اختلافها معروفة في الأديان الوثنية القديمة ، ولكن الأديان الكتابية هذبتها ووفقت بين معانيها وفضائل النفس في عهود التقدم والحضارة ، وأزالت عنها أدران الهمجية ومعائب القسوة والجهالة وبقايا الأساطير الأولى.

ومن العبادات القديمة في تاريخ التدين عبادة الصوم بأنواعه الكثيرة ، ومنها الصيام عن بعض الطعام أو الصيام عن الطعام كله ، والصيام في بعض ساعات اليوم ، والصيام في أيام متواليات ، وصيام الشكر ، وصيام الرياضة ، وصيام التكفير.

إذن الصيام ألوان وأنواع ، والصوم معلوم في الأديان الكتابية الثلاثة: الموسوية والمسيحية والإسلام. فمن الموسوية نلاحظ أنه ليس من المعلوم في كتب العهد القديم نص على الصيام في وقت معين غير صيام الكفارة “يوم عاشوراء” ، وهو غير يوم عاشوراء الخاصة بنا فهو في اليوم العاشر من شهر تشرين من السنة العبرية.

يقول العلامة المصري “محمود باشا الفلكي” رائد علم الفلك عند تحقيق التاريخ الهجري بالحساب العلمي الدقيق حيث اتفقت الروايات على أن النبي عليه الصلاة والسلام دخل المدينة واليهود فيها صائمون صيام عاشوراء ، فظن بعض المتأخرين أنه كان اليوم العاشر من محرم ، ولكنه ظن ينفيه أن الهجرة كانت في ربيع الأول ، وأن دخول المدينة كان يوم إثنين ، فلما رجع محمود باشا الفلكي إلى التاريخ العبري تبين له أن العاشر من شهر تشرين يوافق يوم اثنين ويقابل العشرين من شهر سبتمبر سنة 622 ميلادية وأنه هو اليوم العاشر من شهر تشرين سنة 4383 عبرية.

أما أيام الصيام الأخرى عند اليهود فقد اضيفت مع الزمن ولوحظ فيها التكفير والاستغفار في أيام المحن والشدائد ، ومنها يوم هدم الهيكل الأول ، وهدم الهيكل الثاني ، وغير ذلك أيام أخرى من أيام الهزيمة والحصار. والصيام عندهم على درجات ثلاث: يوم كامل ، ونهار كامل ، ونصف نهار. فيصمون يوم الكفارة ويوم ذكرى الهيكل من الغروب إلى الغروب ، ويصومون أياماً غير هذين اليومين من مشرق الشمس إلى مغربها ، ويصومون كثيراً من الشروق إلى الظهر ، وهو صوم نصف نهار ، وكل الصيام عندهم امساك عن الطعام والشراب.

أما في المسيحية: فقد ورد عن السيد المسيح أنه صام أربعين يوماً في البرية ، ولم يرد عنه أنه وصى بالصوم في وقت معين ، ولكن الكنائس المسيحية توجب الصيام قبل عيد القيامة خاصة ، وينقسم الصيام إلى امساك عن الطعام كله ، وامساك عن أنواع معينة كلحوم الحيوان ، ومن الصيام ما يبدأ عند منتصف الليل ومنه ما يكتفي فيه بوجبة يومية ، ولا حرج من التدخين ، ويترك الخيار للصائم التابع للكنيسة الغربية في كثير من الأحوال.

ومن المرجح دائماً أن العقائد التي تلازم النفوس زمناً طويلاً لا ترجع في نشأتها إلى أصل واحد ولا علة واحدة. والصيام أحد هذه العقائد التي تحصى لها أصول كثيرة في علم الأجناس البشرية وعلم المقابلة بين الأديان. وهذه فائدة كبرى من فوائد العلوم الحديثة التي بينت للناس الغامض والخفي من سيرتهم على هذا الكوكب العامر وانقذتهم من الحيرة والتخبط ، وسوف نرصد كيف كان نهج عبادة الصوم قديماً وعلى ما قام وتأسس في البدء ، لكننا نعلم أن القرآن كلام الله سبحانه وتعالى ، أنزله في شهر رمضان حيث قال “شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ” فمن كلام الله نستطيع الوقوف عند آية تأخذنا بعيداً قليلاً ثم نعود لصيام من قبلنا ، وهذه الآية تحتاج إلى وقفة نتعلم فيها ما هو الاختصاص والاصطفاء ومن هو صاحب شأن الاختصاص والاصطفاء والآية هي: “وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ” شأن عظيم من شئون الألوهية ، آية من كتاب الله يجب أن تستوقفنا ونملي فيها النظر فمصداقها في الكون واضح لا لبس فيه ، فهو واضح في الأشخاص ، وفي الأمكنة ، وفي الأزمنة.

فكيف كان اصطفاء رمضان لنعود بعدها للصيام قديما ثم إلى فلسفة الصيام بعد أن نفهم حثيات القضية ونراها من كل جوانبها.

أولاً الأشخاص: هؤلاء هم البشر من عهد آدم لا يحصيهم العد ، خلقهم الله جميعاً ولكنه اصطفى منهم لقيادة وهداية الخلق من يشاء ، ويصطفي منهم إلى يوم القيامة من يشاء من علماء وفلاسفة وقادة ومفكرين ومصلحين كما اصطفى الأنبياء “إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ” ، “اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ” ، “يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي” ، “وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ”.

ثانيا الأماكن: وهذه الأمكنة منذ خلق الله الأرض وجعلها للناس مستقراً ومقاما ، يمتاز بعضها عن بعض ، منها مهابط الوحي ، ومنها مثابة التقديس والعبادة ، ومنها ميلاد الأنبياء وبعثهم ، أصطفاها الله على سائر الأماكن وجعل أفئدة من الناس تهوي إليها: “إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنا” ، “فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى” ، ” سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا”.

فما بالك بالأزمنة من ساعات وأيام وليالي وسيكون لنا سياحة مع الأزمنة في المقالة القادمة والتي سنبدأها بثالثاً وسيعجبك فيها اصطفاء شهر كريم من كل شهور السنة .. “رمضان كريم”.