“صوم وصيام” كنت أودها في “رحاب رمضان” ووجدت الشيخ محمود شلتوت رحمة الله عليه قد استخدمها استخدام أمثل ؛ ثم قلت “فلسفة الصوم” وفي بحثي وجدت الأستاذ العقاد قد استخدمها كعنوان في أحاديثه الإذاعية ؛ وقلت “الصيام أسرار” ، وربما “الصيام أسرار وأحكام” ووجدت الامام الحكيم الدكتور الصوفي الزاهد عبد الحليم محمود قد استخدمها وبرع فيها لأن هذا تخصصه ومنبع وفيض علمه ؛ وكذلك “لطائف رمضان” وهي عناوين عند الصوفية وبخاصة عند ابن عطاء السكندري وأستاذه أبي العباس المرسي ؛ ولا أريد أن أطيل عليكم فعليه إجتهدت لاخراج هذه التسمية لنقول “صوم وصيام”.

وصوم: هو كل صوم أي إمساك عن شيء مثل “إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً” فكان امساك عن الكلام ، ويدخل فيه صوم الرِجيم “الحمية” بالإمساك عن تناول بعض الأطعمة ، ويدخل فيه صوم “الوصفة” أو “النصيحة” من الطبيب بسبب المرض فلا تأكل مثلاً من أنواع الطعام ما يسبب لك زيادة في الأملاح أو الحصاوي أو يعود عليك بآلام وأوجاع النقرس بعيد عننا وعنك ، ويدخل فيه صوم “القدوة” أي صوم التطوع.

وصيام: هو الصيام المكتوب الذي كتبه الله “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ” والذي هو أساس من أسس التقوى في كل العقائد ولا تكتمل العقيدة إلا به.

والصيام عبادة من العبادات فرضت في الديانات والعقائد ، وفي الاسلام هو أصل وأساس وفرض مكتوب ، والصيام يحتاج إلى فهم وتدريب ، الصيام سمو وارتفاع عن صغائر وكبائر الحياة ، الصيام درب مفتوح للعقول وللأرواح وللأصحاء ؛ الصيام ليس دعاء لأن الصلاة هي الدعاء ، والصيام ليس هجرة لأن الحج هجرة كبرى ، والصيام ليس شهادة لأنه مسبوق بها ، والصيام ليس تضحية وبذل وعطاء لأنهم مجموعين مشمولين في الزكاة والأضحية ؛ إنما الصيام سر الأسرار .. سر مختوم يتمتع به صاحبه وفقط .. وللصيام صاحب سر “أمين سر” و “مالك للسر” .. والصيام إخلاص خالص منقطع النظير ، وشعور سامي عالي في السماء ، واحساس راقي متسم بالكمال ، وتوجه صادق بالكلية إلى رب السموات والأرض رب العالمين. الصيام فردوس الصائم ، الصيام نفسه في حد ذاته رائعة الروائع لمن يروعه الفهم والحس والشعور وتغلفه العاطفة ، الصيام نفسه ابداع لمن يعرف عن الابداع شيئاً. الصيام جوهرة لمن يعرف الفرق والتمييز بين الجواهر والأحجار ، الصيام سياحة للنفس والروح معاً ، الصيام غاية ، ووسيلة الوصول لها الايمان بالله مأخوذة من قوله سبحانه ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْالصيام” والصيام تقوى والعاقبة للمتقين.

اللهم اجعل لنا صياماً من كل نوع عام وخاص ومن خصوص الخصوص نحس به بكل احساس ويرقى بنا كما شئت وكما بينت وأعظم وهو سر عندك لا ندركه إلا بالصيام والتأمل في الصيام وفي فقه وتقوى القلوب.

ونختصر ما قلناه هنا عن تعريف الصوم بالامساك لغةً ، ولكن ما هو قولك لو قلنا أن للصوم تعريف آخر وقلنا أن الصيام معناه “السياحة” أيضاً؟
الصيام: سياحة لا تستغرب ولا تستعجل ، بالاطلاع والبحث قال العلماء أن الاشارة إلى الصيام وردت في القرآن الكريم مرتين بمعنى السياحة حيث جاء في سورة التوبة “التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنْ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ” وحيث جاء في سورة التحريم “عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً” ورجح القول في التفاسير أن المقصود بالسياحة في الآيتين الكريمتين هو الصيام.

فيا سائح اتقي الله في سياحتك ، فهذا معنى جميل يدل على حقيقة الصيام الجوهرية وأنه سياحة من عالم الجسد إلى عالم الروح ، هذا حديث الروح الذي للأرواح يسري وتدركه القلوب بلا عناء ، وبذلك لا يكون قصاراه ومقصده الامساك عن شهوات الجسد ساعات من اليوم ، بل لا يزال يغلب عليه أو الغالب عليه “الصائم” أنه سمو عن تلك الشهوات كأنها رحلة إلى مكان قصي منها ، وانتقال من مجال إلى مجال.

وفي اللغة مرادفات كلمة سِيَاحَة (اسم): إِرْتِحَال ، تَجَوُّل ، جَوَلاَن ، رَحِيل ، سَفَر ، طَواف ، مُبَارَحَة ، مُغادَرَة .. وأضداد كلمة سِيَاحَة: إقامَةٌ ، استيطانٌ ، ثباتٌ ، ثَواءٌ ، حُلُولٌ ، سَكَنٌ ، نُزُولٌ. ومن هنا نفهم أن السائحون والسائحات هم الصائمون والصائمات عن الدنيا التي ليست لهم سكن أو منزل أو موطن ، وهم يعلمون بصدق ويقين أنهم عنها راحلون ولها مغادرون ولذلك هم مجردون من أطماعها وغرورها وجاذبيتها. الصيام سياحة: رحلة إلهية عند الذين يفهمون رمضان ويعرفون خواصه وأحداثه ، فكلمة رمضان توحي إليهم برحلة إلهية ميقاتها الشهر كله ، يخلع فيها المؤمن نفسه من حياة مادية كلها شقاء وعمل وكد مظلمة بقوة إلى حياة روحية مضيئة ، يخلع فيها نفسه من هموم الدنيا وأكدارها إلى لذة لا يعرفها ألم ، وسعادة لا يعرفها شقاء ، فيبدأ الرحلة في يومه: باسمك اللهم صمت ، ويختم نهاره: باسمك اللهم أفطرت ، وفيما بين الوقتين يقوم لله قانتاً: يركع مسبحاً ، ويسجد داعيا ، ويعظم شعائر الله سامعاً منصتاً أو مرتلاً وحيه وقرآنه حتى مطلع الفجر ، وهكذا دواليك حتى يبلغ الغاية ويصل إلى النهاية ، فيصبغ الله عليه حلة الرضا والغفران ، ويعود بعد ذلك إلى دنياه في أيام من يعود ويسمى “عيد” نقول يعود وقلبه معلق بمولاه ، يخشى الحرمان بعد العطاء ، والغضب بعد الرضا ، والطرد بعد الإيواء ، فيظل متمسكاً بجانب التقوى ما استطاع فيفي للرب العظيم بعهده ، ويقوم للعبد بحقه ويصير مصدر خير لنفسه ولأهله وللناس ، وهكذا يكون ايحاء رمضان على مدار العام.