الحالة الصحيّة لأي مجتمع مؤشر يكشف عن مدى وعيه وتحضّره. والمجتمعات الفقيرة والمتخلّفة هي التي تستشري فيها الأمراض ويعجز معها الإنسان البسيط عن إيجاد مصدر تمويليّ يغطي به نفقات علاجه، وهنا نركّز على (الإنسان البسيط) لأنه في نهاية المطاف مواطن له كامل الأحقيّة في أن يحظى برعاية طبيّة جيّدة داخل وطنه، أمّا الأثرياء فسيبحثون عن أقرب طائرة تنقلهم إلى إحدى المستشفيات الأوربيّة لينعموا بالبرامج العلاجيّة الفاخرة.

تأخرنا في تطبيق التأمين الصحي الإلزامي فاقم أزمة المواطن الطبيّة، إلى درجة أن الفرد لا يتجه إلى المشفى إلا عندما تستفحل حالته وتنفذ قدرته على تحمّل آلامه الجسديّة أو النفسيّة، ما يزيد الموقف تعقيداً ويصعّب إمكانات العلاج ويرفع تكلفته الماليّة، وكان في المتناول تفادي كل تلك الأضرار لو أنه وجود تأميناً صحياً شاملاً يحفّزه على الاهتمام بصحّته، ويلقي عنه جزءاً كبيراً من أتعابها.

التأمين الطبي ليس ترفاً، هو يخفف من النفقات التي يتكبدها المواطنون في سبيل معالجة أمراضهم، حيث تتكفل شركة التأمين بتغطية التكاليف العلاجيّة كاملة مقابل قسط شهري ميسّر، وهذا الخطوة لم تعد ثانويّة لدى المجتمعات الحديثة، فهي ركيزة رئيسة من الضروري الاتجاه إليها لتوفير العلاج المناسب في الوقت المناسب ودون أن يضطر المواطن إلى الاتجاه للبنوك لاستخراج قرضٍ يسدد به فاتورة علاجه، أو يذهب لاستجداء الأثرياء ليرحموا حاله ويشفقوا عليه.

لا يكاد ينقضي يوم إلا ونستمع فيه لمعاناة أحدهم ومناشداته لتخليصه من مرض ألمّ به، فهل باتت الرعاية الصحيّة محلّ استجداء؟، إنه مؤشر خطير للغاية يكشف عن وجود أزمة صحيّة في المجتمع، والشقّ لا يزال يتّسع إن لم نسارع في اتخاذ التدابير اللازمة والاستفادة من التجارب الدولية في مجال التأمين الصحي، وهذه من أولويات وزارة الصحّة التي من واجبها تقديم رؤية متكاملة لصنّاع القرار لاستصدار قانون عاجل يكفل لكافة المواطنين إمكانيّة علاجهم، والتعاون كذلك مع وزارة العمل لإلزام المؤسسات الحكومية والشركات الخاصة بتوفير التأمين الصحي لمنسوبيهم كجزء من العقد المبرم فيما بينهم لتفادي العشوائيّة والتباين فيما بين عقود العمل.

الاتجاه إلى التأمين الطبي الإلزامي هو جزء من المشاريع الوطنيّة التي لا سبيل للتغاضي عنها إن أردنا أن نحقق نهضة تنمويّة تتمحور حول الإنسان بوصفه أساساً لأي تطوّر، فالفرد السقيم الذي تكالبت عليه الأمراض ولم يقدر على علاجها لا يمكنه أن يصبح فرداً منتجاً وفعّالا بل سيتحوّل إلى عبئ على مجتمعه وحجر عثرة من شأنها أن تقوّض أي مشروع حضاريّ.