صحوت ذات يوم وقبل اثنتين وأربعين سنة على صوت لا يزال صداه يتهادى في سمعي وبخاصة عندما أسرح بخيالي في تجاذبات ونتوءات الماضي الجميل عقب نزول الأمطار وجريان السيول زمن السواقي وحبنا الباقي،ذلك الصوت كان مصدره أبي وهو يسوق ثورا عملاقا يجر محراثا -برعوة وحزبة وقتب-(عدة حراثة الأرض قديما)ومن خلفهما الذاري(شخص يحمل الحب في إناء ويقوم ببذره على حسب الخطوات فالمسافة بين كل ثلة وثلة خطوة كاملة فينشأ الزرع في تناسق بديع يغري المزن يوميا بإهراق سحابة أو سحابتين في غزل عذري جامح بين أطراف الطبيعة-السماء والأرض والهواء-وإلى الجوار من العمال تلتمع قطرات الندى على أوراق الريحان والصيمران والصميعاء والسكبةوالشيح والشار- نباتات عطرية طبيعية تنبت بدون تدخل البشر) وفي ذلك الصباح الحي تذكرت أيضا صوت أمي- يرحمهاالله وأموات المسلمين- وهي تنادي: الفطور جاهز،لقدهببت من فراشي المتواضع(مجموعة من الأدم تسمى فروة كبطانيةوأديم ثور يقال له بوة بتشديدالواو كطراحة)وذهبت فرحا لأرى الفطور والذي كان عبارة عن: دوحين من الذرة مع قعب لبن وصحن سمن مع الخلاصة( كميةمن الحب المطحون يوضع كخلطة مع السمن البلدي تعطيه نكهةوذوقا يفوق الوصف)مع مشعل ماء(إناء من أديم يدبغ ويخيط بحرفيةعالية يحفظ الماءويبرده)وخمس حبات من الموزالبلدي الزكي،وقمت بأكل ماتيسر جهلا بما يترتب على عدم انتظاري الضيف المعين لأبي والذي كان علقة تذكرفتشكر لإدخالها مفهوم الأدب بشكل مباشر في كامل وجداني!

لقدحضرأبي وضيفه والثورالذي أعد له الطعام المناسب (حزمةعلف طازجةوماء)حضروا والعرق يتصبب من أجسادهم المغبرةوالتي لاتخلو من نفحات الشقوقب والحمرار-الأول:نبات طيب الرائحة يستخدم في الحنيذ،والثاني:نبات له ليونةتشابه الخيزران- وبعدأن أكلواوارتاحوا قليلا عادوا لمواصلةالعمل وسط أهازيج حماسية.

تحرك الشجروالحجر،وبعد يومين بدأت تباشيرالزرع تشق وجه التربة ثم اشتدالساعدوتدلت السنابل مما دعانا لبناء(المحماية)كقاعدة نطلق منها الأحجاروالأصوات ضد ماتسول له نفسه العبث بزرعنا من طيروحيوان،وبعد مدةتجددت الحاجة للعمال في حصدالزرع وجز السنابل وجمعها في الأجران (البيادر)ثم الشروع في استخلاص الحبوب في أمسيات هي الحياة تعم أوديةوشعاب الوطن بعامة فاكتفينا غذاء وارتحنا بالا.

واليوم أمطارنا(السواري والغوادي والظهيرةوالعصر والسيل يطم الروابي فإذا بالمدرجات قدأصبحت مناخل لا تحوي الماء،تهدمت وغادرها ترابها وأصبحت موطنا لذوات الأشواك،هي اليوم أثر بعد نظر،ودمار عقب عمار وكلما هطل المطر وامتلأت شظايا السواقي، وفاضت على المدرجات سمعت هديرالماء المنساب منها وكأنه يقول : أين المدرجات التي كانت تحضني بكل حب وشوق فأبقى بها حياة ونماء؟

فترد عليه المدرجات والدمع يهز ميازيبها:أواه مما جرى لي، ياحسرة أين الرجال الذين جعلوا مني أكثر غلاء من ربات الحجال؟!!

فأكتفي أمام كل هذا بالدمع مع حلم يراودني مستقبلا بعودةالمدرجات لتسود بعد جحود،فلقد بتنا في أشد الحاجةلها من ذي قبل،ولكن: هل جيل الواتساب وحلاقةالقنافذ وعشاق البطاطا والبيبسي يستطيعون؟