ومن أصناف الشباب صنفٌ في بؤرة الأزمة “أزمة الشباب” (فالشباب هم الأمل وهم مصدر الخطر في وقت واحد). هذا الصنف هو “الشباب المتعصب” ، والتعصب والتشدد واضح في كثير من الشباب المتدين ولكن ليس كل متدين متعصب متشدد وهذا يقودنا إلى السؤال: من هو المتدين؟
لكل إنسان غدد وكبد وبنكرياس وأمعاء إذا احتشد فيها الميكروبات احتشاداً تدفع الجسم مكرها إلى سلوك لا يرضاه ولا يريده ..

كذلك باقي الأعضاء والغدد إذا أصاب احداها الخلل سرت العدوى في غير ابطاء إلى حركته فجعلته متألما صارخاً ، غضوباً جازعاً وربما مستسلما صابراً وفي كل الأحوال يبحث عن العلاج ويأمل الشفا. وكذلك تلك النفس المجهولة لها آفاتها فالمتدين هو صاحب السلوك الديني والمتسربل بأخلاق الدين.

فبعد فترة من النمو الهاديء والاستقرار الانفعالي للطفل بين أحضان الاسرة والمجتمع يحدث خلل حين يشب ويخرج شاب فرد “غير متزن” و “غير مستقر” حيث لا يمكن التنبؤ باتجاهاته وتصرفاته ، ويصبح أيضا “غير قابل للانصياع” و “غير قابل للفهم والتفاهم” ولا يخلو الأمر من اندفاع وعصبية ضد الكبار بشيء من الحساسية وبخصام وقطيعة.

وما ورد في كتب العقائد شيء عن هذا المتدين؟! ولكنها كلمة مشتهرة بين العوام لوصف فرد ونسبته لسلوكه مثل مدَّروش وليس درويش ، متحدث وليس علامة ، متكلم وليس قَصَّاص ، ومتعبد وليس عابد .. و”متدين” في اللغة اسم فاعل للمتعبد ، ومنها أنه فرد تشدد في أمر دينه وعقيدته ، لذلك هو لفظ يطلق على من يتسربل ويكتسي بالمظاهر الدينية ويسلك سلوك ديني ظاهر. والتدين باعتباره جهدا بشريا في جانب التعاطي مع الدين وتطبيقه في الحياة ، يتغير ويتبدل ويتجدد ، بحسب أحوال الناس وظروفهم المحيطة ووفرة وتنوع أفكار ومذاهب القائمين بواجب الدعوة والتذكير والإرشاد والتعليم. ومن الطبيعي أن يعتريه نقص أو قصور أو خلل ، لأن هذا شأن النفس الإنسانية والمجتمع البشري.

والتدين قد يكون انفعالاً مرضياً أو لتحقيق ذات وابراز هوية لينال اعجاب وتقدير الناس ، أو من كوامن الكبت والحرمان أو رد عكسي لآلام وضغوط في تلك النفس المجهولة كما أسلفنا في أول المقالة ، وربما يكون من فضيلة خلقية أخلاقية أو انفعال صحيح ، وربما كان التدين شكلي وربما كان جوهري ، وكذلك هو حقيقي ومزيف ؛ ولكن السؤال هو: وهل ينفع الإنسان في خلقه وبيئته سلوكه الديني فقط؟! إننا لنلبس الحق بالباطل حين نخال التدين السبيل الأوحد للأخلاق ولتتذكر أيها القارئ أننا نتكلم عن “التدين” لا عن “الدين”.

ولابد لفهم ذلك أن نفرق بين تبعاتنا الدينية ، وتبعاتنا الخلقية ، إن المتدين يستطيع أن يصلي ويصوم ويزكي ويتصدق ويحج وهو مشحون النفس بالعقد المكبوتة والحرمان .. وهو ليس قط صاحب ذات منظمة وطيدة وسلوك سويّ مكتمل وفيه هذه الشحنة المدمرة من العقد النفسية ، والقهر الاجتماعي والسياسي وتناقض أقوال رجال الدين؟!

ولندرك أن سلوك الإنسان وحركته ليس نتيجة لتدخل من الله! ولا تدخل من الشيطان! وإنما هو ثمرة الإنسان وحده .. ثمرة نفسه وأعصابه ، وغدده وأعضائه ، وغذائه ، ونشأته ، وتربيته ، وأسرته ، ومجتمعه وكل ذلك يحدث وهو “مؤمن بالغيب” .. ولذلك كانت الأمانة “أمانة الاختيار” بين الخير والشر ، ثم هي نفس: “وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا” ، و “كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ” (أي لكل فعل وحركة تبعة ومسئولية) مع الإيمان بالغيب .. فهي هداية وغواية وعليه الاختيار!! والتصور الديني مع التصور العلمي للمشكلات الأخلاقية يتيح لنا فرصة الكشف عن المصادر الحقيقية لأخلاق الناس وسلوكهم ، تلك التي تتمثل في تكوينهم الجسدي والنفسي والبيئي ، ولذلك الدين يهيب بالناس أن يضاعفوا من جهدهم المبذول في سبيل ترقية النفس وإعلاء طبيعتها ، ما دامت الرذيلة التي تتعبدهم ليست قدراً مكتوباً يعلموه ، وما دامت وليدة عوامل من الممكن إزاحتها والتخلص منها أو تجنبها والبعد عنها سواء بالوقاية أو بالدراية.

وإدراك حقيقة هذه الظاهرة “الشباب المتدين” ومحاولة فحصها ودراستها وتحليلها هي من أجَّل القربات إلى الله ، وهي من فعل الخير الذي أمرنا به الله ، وإهمالها والتصدي لها أمنيا قتلاً وتقييداً ثم حبساً وسجناً يضيع على المجتمع كثيراً من البر ، ومن الخير ، ومن الصلاح والأمن والأمان.

وما هو الموقف؟ إنه التدين يتبعه تعصب للدين والنتيجة إذن ما أوهن شعورهم بالمسئولية الأخلاقية الإجتماعية والسياسية إن كانت لها في أنفسهم وجود. ويقودنا ذلك إلى “التعصب” والشباب المتعصب بكل أنواعه وفئاته.

وإن شاء الله تعالى في المقالة القادمة نستكمل أفكارنا وكلماتنا حول “الشباب المتعصب” ونكمل الحديث لكشف نبع الطوفان ببلادنا “وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنْ الْمُصْلِحِ”.