ذاتَ يوم.. كنت أتناول الغداء، وقبل أن أضع اللقمة الأولى في فمي؛
حدثتني أمي: أن ثمة خبرًا منتشرًا في المدينة من أن ابنة جارنا العم جبران الشابة (سعدى) تم خطفها من قبل ثلاثة من الشبان، ومضوا بها إلى جهة غير معلومة في سيارة مسروقة من الحي.
ــ أعدتُ اللقمة إلى الصحن وانتصبتُ قائما..
ــ سألتني أمي: ما الأمر؟
ــ لابد لي من أذهب لأهلها، وأستوضح جلية الخبر منهم؛ فمن المعيب بل من العار أن تُختطف فتاة من مدينتنا ولا نحرك ساكنا!!.
بل الواجب أن يهبَّ الجميع لتخليصها من المجرمين.

ــ دخلتُ غرفتي وأخذتُ سلاحي، وأفهمتُ أمي بعزمي على ملاحقة المجرمين.
ما توانتْ عن تأييدي ومباركة رغبتي.
ــ أستودعتك الله الذي لا تضيع ودائعه.
ودعتُها وأخذتُ سيارتي الجيب الجديدة.
كان عمري آنذاك تسعة عشر عاما.

ــ أمام بيت العم جبران تجمهر عدد كبير من الرجال والشباب والفتية وحتى الصغاركعادة الناس في مثل هذه المواقف وبدا على الجميع الذين تشكلوا في حلقات دون انتظام الاندهاش وهمهمات الأسئلة وآهات الحسرة تعلو وتخفُت.
ـــ اقتربتُ من ثلة منهم مستخبرا: كيف؟ ومتى؟
ــــ إن الخاطفين ثلاثة من الشباب يلبسون ثيابًا بيضًا، حاسري الرؤوس حضروا قبيل الساعة الثانية بعد الظهر في سيارة جيب نيسان بيضاء مزينة بشريط لاصق أخضر من الجانبين. والسيارة مسروقة من العم حمدان.
ـــ لقد شاهدتُ سيارة العم حمدان على الطريق المتجهة إلى الجبال قبل أقل من ساعة.
ولم أكن على علم بما حدث لابنة العم جبران.

ــ غادرتُ عصر اليوم نفسه، وقد حددتُ مساري في مطاردة الخاطفين باتجاه الطريق التي توقعت أنهم سلكوها.. ومن هناك إلى طريق في جبال أخرى، وفي هذه الطريق قابلتُ رجلا مسنًّا
سألته: عن الطرق التي يسلكها المهربون وأخبرته بمقصدي من السؤال حتى أبدد شكوكه فأفادني أنه يلزمني التوجه شرقًا إلى تلك الجبال الشاهقة.. وأن ثمة طريقًا وعرة يجب أن أسلكها وأمضي فيها رغم وحشتها حتى أهتدي لمبتغاي.
ـــ عملتُ بنصيحته وسرتُ على وصفه
بدأتْ الشمسُ تميل نحو المغيب.. وبدا لي مسجدٌ صغيرٌ قديمٌ في زاوية من الطريق صليتُ المغربَ مع نفر رمقوني بنظرات حادة وحتى لا يمطروني بوابل أسئلتهم انحنيتُ عنهم واتخذتُ جانبًا في طرف المسجد، وأقمتُ وصليت العشاء قصرا.

ـــ عدتُ إلى سيارتي وانطلقتُ أغذ السير مسرعًا لا ألوي على شيء؛ أمشط الأماكن الوعرة والسيارة تتهادى بين الجبال. أسدلَ الليل ستاره وخيم الظلام، وسرتُ في ظلام دامس، ولم أعد أرى من الطريق سوى موضع نور السيارة، بتُّ ليلتي أمشط الأماكن الجبلية قائلا في نفسي :لعل وعسى!
ولكن لم أعثر على شيء. الساعة تقترب من الثانية عشر ليلا، وقد مسني الجوع؛ فأنا لم أذق منذ الصباح سوى قليل من الطعام.

دخلتُ قرية ورأيت من المناسب أن أسأل عن دكان لعلي أجد فيه مايسدُّ رمقي..
ولكن هيهات!! ففي تلك القرى ينام الناس مبكرين، أبصرتُ بيتا في طرف القرية يدل على أن صاحبه من علية القوم. اقتربتُ منه كثيرا.. وتوقفت.. وأطفأتُ أنوار سيارتي؛ ففي تلك القرى لاتوجد أسوار تحيط بالمنازل. شعرتُ بحركةِ شخصٍ يسير نحوي! ولكن مع حلكة الظلام ، رأيت شبحا لم أتبين شخصه مشى إليَّ حتى دنا مني كثيرا.. رفع كشافًا صغيرًا وسلط ضوءه على وجهي..
قال بصوت ناعم واثق: تبارك الله! ما شاء الله! إلى أين؟! قدمتَ إلينا من طريق المهربين! وسحنتك لا توحي بأنك منهم. ماحكايتك؟ وما حقيقة أمرك؟
من صوتها عرفت إنها امرأة!
ـــ أريد قليلا من الماء.
ـــ انتظر. وغابت، ثم عادت وبيدها اليمنى إناء من الحليب وكسرة من الخبز.. وحملت في يدها اليسرى فانوسًا أضاء المكان مدت بالطعام إليَّ
ـــ كُلْ.
ــــ أنا طلبت ماءً.
ـــــ يارجل! كُلْ. والله إني أرى الجوع في وجهك.. سم الله. وكل.
مشت بفانوسها نحو سيارتي.. اتكأتْ بظهرها على مقدمة السيارة .. كنت أرمقها مع كل لقمة أتناولها.. بدا لي أنها برغم محاولتها إظهار الخشونة والصرامة إلا أنها مكتملة الأنوثة ورغم هيئتها المنفرة إلا أن عبق أنوثتها فاح في كل اتجاه.
وأنا على هذه الحال بين التأمل والأكل مالت بظهرها أكثر وكأنها تريد الاضطجاع؛
فسمعت صوت احتكاك بالسيارة.
فزعت وقلت: ماالأمر؟
ــــ لا عليك.. هذا سلاحي أحمله احتكَّ بالسيارة.
بعد أن أكلتُ وشبعت؛ ناولتُها الصينية.
ــــ علمني الآن! ما الذي جاء بك إلى هنا؟
فأخبرتها الخبر من مبتدئه إلى منتهاه.
ــــ الوقت الآن غير ملائم..
فالمهربون ورجال العصابات ينشطون في هذا الوقت من الليل.
ولا أستبعد أن يقتلوك طمعًا في سيارتك الجديدة؛ ولربما الخاطفون الآن مندسون في مغارة
أو بين الشجر في هذه الغابة خوفًا على أنفسهم. وأرى أن تقود سيارتك للأمام قليلاً وتتوقف لتنام .
ــــ لعلي لو تقدمتُ قليلا فسوف أظفر بهم.
ــــ أقسمتُ عليك لا تمضِ إليهم! اسمع كلامي، ونفذ ما قلت لك.

سرتُ بالسيارة قليلا.. وأقفلتُ أبوابَ السيارة، ونمت.
صحوتُ مع الفجر..جلست..أعدت كرسي السيارة إلى وضعه الطبيعي..فتحت الباب وخرجت.. وإذا بالماء أمامي
ومضيفتي البارحة جالسة على أريكة تبعد عني قليلا.. وقد أشاحت بوجه كأنه البدر..وبين يديها سلاحها الآلي
حين فرغت من صلاتي؛
سألتها: كأنك بتِّ سهرانة! .
ــــ نعم بتُّ أحرسك.
ــــ ولم؟
ــــ لأنك ضيفنا، وفي حمانا.
فأكبرتها على هذا الفعل.
وقلت في نفسي: يا لها من امرأة شجاعة ومضيافة!
شكرتها ولوحت بيدي مودعًا وبودي أني لم أودعها.
ــــ انتظر لحظة! دخلت، وعادت بقرص من البر وصينية من الحليب.
وسبحان الله!!
فتاة فوق أنها جميلة فهي رغم لباسها غير المتناسق كانت ممشوقة القوام؛ تتهادى في مشيتها
وكأنها الفرس الحرون!
أخذت طعامها وشرابها.. وأكلت.
وقبل أن أودعها سألتها: من البارحة لم أرَ رجلًا في البيت؛ ما حالكم؟
ــــ أخي الأكبر يعمل في القاعدة العسكرية في خميس مشيط.
ووالدي ذهب لزيارته وسيعود خلال اليومين القادمين يوم الخميس.
سألتني: هل لديك سلاح؟
ــــ نعم.
ــــ أرنيه. فأريتها مسدسي.
ــــ هذا ليس سلاحًا لمواجهة مجرمين عتاة.
خلعتْ سلاحها من على كتفها وناولتنيه.
ــــ انطلق الآن! في وداعة الله وأمانه.
ودعتها وانطلقت مسرعا نحو هدفي الذي جئت من أجله.
لكنها لم تفارق تفكيري.. لقد سكنتْ قلبي، وشغلتْ جوارحي.

غادرتُ قرية الفتاة وهي في مخيلتي
عزمتُ على تنفيذ ما جئتُ من أجله؛ فاستعنتُ بالله، وتوكلتُ عليه، ورجوته التمكين لي.
ركزتُ نظري على الطريق.. وانطلقتُ بسيارتي بين الجبال. وفي طرق وعرة صاعدًا وهابطًا لأكثر من ساعتين.
فجأة نزلتُ في وادٍ مخيف.. سرتُ أكثر من نصف ساعة.. ومن بعيد رأيت سيارة متوقفة..
حين بدأت في الاقتراب رأيت شابين يلبسان ثوبين أبيضين حاسري الرأسين يحفران تحت إحدى عجلات السيارة المغرزة في الوادي.
اقتربتُ أكثر فإذا بالسيارة شبيهة بالتي وُصفت لي. أيقنتُ أنها هي حين اتضحَ لي نوعها ولونها .
رأيت أنه من المناسب أن أسلك طريقا بعيدا عنهما حتى أبعد عني شبهة ملاحقتهما.
فعلت ذلك.. وتجاوزتهما، واستمريت مسرعا حتى غبت عنهما، ثم انكسرت يمينا، ودخلت في غابة من الأشجار، ثم انكسرت يمينا مرة أخرى حتى أصبحت مقابلا لهما، ولكن بعيد عنهما أيضا أخذت سلاحي ونزلت من السيارة مسرعا متخفيا بين الأشجار حتى صرت قريبا منهما التفتوا نحوي مفزوعين وبدأت أطلق الرصاص في الهواء من على رؤوسهم فأطلقوا لأرجلهم العنان وهربوا مسرعين لا يلون على شئ واختفوا تمامًا .. عدتُ الى السيارة فأصابني الفزع لأنني لم أرَ الفتاة داخل السيارة .. حين فتحتُ الباب الخلفي وجدتها ممددة في حالة إعياء تام بسبب الخوف والهلع والجوع فعرَّفتها بنفسي وهي تعرف أسرتي.

ـــ أنت الآن في أمان الله وحفظه.؛ فعلينا أن نسرع الآن وننسحب من الموقع تحسبًا لأي طارئ قد يطرأ. فلابد من أخذ الحيطة..
سحبتها بيدها، فلم تستطع المشي.. فاضطررت لحملها على كتفي، والإسراع بها إلى السيارة أودعتها في المقعد الخلفي للسيارة. حتى وصلنا إلى بيت مضيفتي صاحبة السلاح.. استقبلتني بفرحة غامرة.
وأقبلت تسألني: بشِّر.
ـــ لقد حررتُ الفتاة منهم، وهي في المقعد الخلفي.
فتحتُ الباب الخلفي.
وحين رأتها.. التفتتْ إلي، وقالت: والله إنك فارس!.
ـــ إذا كان بالإمكان تأتينها بشيء من الحليب والتمر؛ فهي بحاجة لأن تأكل؛ فوضعها الصحي مقلق.
ـــ الآن! ذهبتْ.. وعادت به وصعدتْ عندها وبدأتْ تطعمها التمر وتسقيها بالحليب.
وحين انتهتْ نزلت.. ولكن وجهها كان متغيرا، عرفتُ أنها شاهدت الفتاة وسعدى على قدرٍ كبيرٍ من الجمال.
ــــ مبارك عليك نجاةَ فتاتك.
ــــ وما أدراكِ إنها فتاتي.
ـــــ في الغالب البطلُ يتزوجُ البطلة.
ـــــ هذا في الروايات والأفلام. ثم تعالي أخبريني؛ من أين لك هذي الثقافة؟
وأنتم لا توجد لديكم مدارس للبنات حتى الآن.. ولا تأتيكم صحف ومجلات أو كتب.
ـــ ثقافتي أخذتها من صديقي الراديو.. فأنا أستمع لصوت العرب وإذاعة لندن وغيرها من الإذاعات
قالت هذا، وأنا أرى الدموع تترقرق في عينيها.
ـــ نسيتُ أن أسألكِ عن اسمك.
ــــ اسمي مهرة.
ــــ هل سبق لك الزواج؟.
ــــ لا. ولكني خُطبتُ ثلاثَ مراتٍ ورفضتُ.
ــــ ولم؟
ــــ لأني مهرة. والمهرة لايأخذها إلا فارس.
وقتها تأكدتُ إن قصة حبٍّ تسكن في قلبها لي، كما تسكن في قلبي قصةُ حبٍّ لها
ثم قلت: وهل ستقبلين بهذا الفارس؟
ــــ إن صدق.
ــــ الفرسان لا يكذبون ابتسمت.
ــــ اسمعي يامهرة! لقد أخبرتيني إن والدك سيأتي بعد يومين، وتحديدًا الخميس.
وأنا أعدك يامهرة أن آتي الخميس الثاني؛ لأخطبك من أبيك، وسنقيم العرس بعد ذلك ، ودعتها، وغادرتُ قرية مهرة.
ولكنها ماغادرتني. فهي في ذاكرتي، وصلتُ مدينتي وسلمتُ الفتاة لأهلها وسط تهليل وتكبير الرجال وزغاريد النساء.
لكني لم أكن منتشيا بفرحة النصر.. لأن مهرتي في انتظاري..
لازالت تسكنني، عدت في الخميس المتفق عليه، كان أبوها قد عاد من السفر ومعه أخوها، كانت مهرة قد أخبرتهم ببطولتي وشجاعتي، اتفقنا على خميس آخر للعرس، حضر الخميس وامتلأ الجبل بنور عرسنا.

يذكر أن هذه القصة جاءت في كتاب “صبيا الذاكرة والتاريخ” للكاتب حسين ضيف الله مريع.