في البداية ومن أول وَهْلَه قد يعتقد الإنسان أنه لا يوجد فرق بين النظر والبصر، ولكن الحقيقة أنه يوجد فرق بينهما في الألفاظ والمعنى وذُكِرَ ذلك في القرآن الكريم بفروقات بلاغية واضحة وهذا يدل على هذه الفروقات والتي لابد لنا من التعريف بها كلُّ عَلى حِدَة لأن الله أمرنا بغض البصر ولم يأمرنا بغض النظر كمثل لتوضيح الفرق.

ونبدأ بالنظر الذي هو نعمة كبرى من الله عز وجل لا يمكن إنكارها ويعرف بأنه التحديق والتقليب في حدقة العَيْن لإدراك الصُّور ويعتبر أول مراتب الإبصار ويكون برؤية الأشياء بالعين دون استخدام العقل وبالتالي عدم الإحاطة الكاملة بالشيء المرئي وقيل عنه أنه النظر الخاطف، أما البصر أو “الإبصار” يعني إدراك أشكال الصور ورموزها وانعكاساتها ونقلها عبر العصب البصري للمخ لترجمتها وتحليلها، ولذلك قيل عنه أنه رؤية الأشياء مع استخدام العقل للإحاطة الكاملة بالشيء المرئي أي أن البصر لا يتحقق بمجرد النظر ولكنه يتم عن طريق الاتصال بالمخ، وهنا تظهر حكمة الله في النهي “بغض البصر” لأن النظر إذا زاد عن الحد المطلوب وتحركت الأحاسيس الفِطْرِيَّة فإن النظر يتحول إلى بصر.

وقد شمل القرآن الكريم عِدَّة آيات للتفريق بينهما في المعاني وسوف نختار لكم الأهم والأقرب منها للتوضيح:

من آيات “النظر” في القرآن الكريم:-

قال تعالى في سورة الأعراف { وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ} (الآية-108) ولم يقل الله عز وجل بَيْضَاءُ للمُبْصِرِينَ لأن من شَهِدَ هذا الموقف من موسى عليه السلام، لَمْ ولَنْ يعلموا سِرَّ هذه اليد البيضاء، بل ظَلُّوا مبهوتين مندهشين من ذلك لأن حسبهم النظر فقط، وقال تعالى {وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَىٰ لَا يَسْمَعُوا ۖ وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} (الأعراف-198) وهذا يوضح أيضا أن الأعين تدور في محجرها ولكن العصب البصري لا ينقل التيار إلى قلوبهم كي لا يفقهوا ما ينظرون، لذلك قال الله تعالى {وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} أي أنه نظَرْ ولكن دون إبْصَار.

أما عندما يأمرنا الله في مواضع أخرى في كتابه بالنظر لا بالبصر وبالتحديد في الآية: {أفَلا يَنْظُرُونَ إلى الإبلِ كَيْفَ خُلِقَت}، والآية: {أفَلا يَنْظُرُونَ إلى السَمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا}، والآية: {فَلْيَنْظُرِ الإنسَانُ مِمَا خُلِقْ}، فجميع هذه الآيات تتضح فيها معجزات الله ولا يستطيع البشر الإحاطة بها أو بكيفية خلقها أو الإلمام بمكوناتها، فالأمر هنا من الله بالنظر للتَدَبُّرْ الذي هو أقرب وأولى من البصر.

ومن آيات “البصر” في القرآن الكريم:-

يقول الله في مشهد عظيم وهو مشهد البعث والحشر عند رؤية الحقيقة بين يدي الله {لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} (ق-22) ولم يقل الله في الآية فنظرك اليوم حديد، لأن الله جعل على أعين الكفار غشاوة كما قال تعالى في سورة البقرة { خَتَمَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ ۖ وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (الآية-7)، والغشاوة هي الغطاء الذي يكون على النظر فلا يبصر الإنسان منه ولكنه ليس العَمَى، وذكر الله أيضاً على لسان فرعون حين نادى قومه بالإبصار لا بالنظر في قول الله تعالى {وَنَادَىٰ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَٰذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي ۖ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} (الزخرف-51) ولم يقل أفلا تنظرون، لأنها حقيقة بالنسبة لفرعون وقومه الذين أسْتَخَفَّهُمْ فأطاعوه.

والجدير بالذكر هنا أيضا أن من أسماء الله عز وجل “البصير” وليس “الناظر” كما قال تعالى في كتابه {إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ ۚ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا} (الإسراء-30) أي أن الله ذو بصيرة عميقة بعباده ومصالحهم لذلك فهو يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر على من يشاء من واقع بصيرته عز وجل بشؤون عباده من الداخل والخارج.

الأحكام التكليفية الخمسة الخاصة بالنظر والتي بينها العلامة ابن القيم وبعض الأمثلة لها باختصار وهي:

* النظر الواجب: كالنظر للمصحف وكتب العلم لتعلم الواجب منها والنظر لتمييز الحلال والحرام عامة.

* النظر الحرام: مثل النظر للأجنبيات بشهوة إلا للخاطب أو المعامل أو الشاهد أو الحاكم أو الطبيب.

* النظر المستحب: كالنظر في آيات الله وكتب العلم والدين لزيادة العلم والإيمان ووجوه الوالدين والعلماء.

* النظر المكروه: مثل فضول النظر في غير مصلحة كما قال السلف: نكره فضول النظر كما نكره فضول الكلام.

* النظر المباح: وهو النظر الذي لا مَضَرَّة فيه في العاجل والآجل وتدعو له الحاجة عند أمن الفتنة.

وأختم ببعض أبيات الشاعر أبو الطيب المتنبي عن النظر:

كلُّ الحوادثِ مبدأُها من النظر ……….. ومُعظَمُ النارِ مِنْ مُستَصْغرِ الشَرِرِ.

كْم نظرةٍ فعلتْ في قلب صاحبها ……… فِعْلَ السهامِ بلا قوسٍ ولا وتـرِ.

والمرءُ ما دامَ ذا عينٍ يُقَـلِبُها ………….. في أَعينِ الغِيرِ موقوفٌ على خَطرِ.

يَسرُّ مُقلَتَهُ ما ضرَّ مُهجَـتَهُ ……………. لا مرحباً بسرورِ عادَ بالضـررِ.