الحمد لله الذي تفرد بالبقاء وكتب على عباده الفناء، جعل الدنيا دار امتحان وابتلاء، والآخرة دار نعيم أو شقاء، كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون.

والصلاة والسلام على من ختمت به الرسل والأنبياء وعلى آله وأتباعه إلى يوم اللقاء.

أمابعد:

فإذا تنوعتْ أكدار الحياة، وتعددت أسبابُها، فإن فقد أهل العلم، وغياب ذوي الفضل والمكانة، لهو منْ أشد هذه الأكدار، وأعظمِها وقعًا، وأبلغِهَا أثرًا.

فقد خيَّم الحزن في الأيام الماضية على رحيل الشيخ أحمد الحواشي – رحمه الله – أحد أعلام أهل القرآن، وأحد عباد هذا الزمان، الذي وافته المنية يوم السبت الموافق ١٤٤٤/٥/١٦ عن عمر ناهز ٦٧عاماً.

لقد عُرف الشيخ بإمامته في الجامع الكبير بخميس مشيط قرابة ٤٣ عامًا دون انقطاع متعلقا به تعلق الحبيب بحبيبه.

مِحْرَابُهُ يَبْكِي ومِنبَرِهِ أَسَى
لِفراقِ شَيخٍ عَالمٍ جَمَعَ العُلَا

فِي هِمَّةٍ وَوَضَاءَةٍ وًطَهَارَةٍ
تَعْلُوكَ يَاشَيخُ المَهَابَةِ والحَيَا

نشأ- رحمه الله – في طاعة الله، واشتهر بالزهد والتواضع والورع والتقوى والدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر والإحتساب وحب الصلاة وإطالتها، وشهد له الناس بتعلقه بالمسجد.

كان مدرسة في الخشوع وطول القيام مما جعل مسجده يُقصد من كل أنحاء المملكة في شهر رمضان، حيث كان يختم القرآن في كل ثلاث ليال، وكانت هذه عادته سنوات طويلة.

لقد وضع الله له القبول، وتشرّب الناس حبه، فما من محبوب في الأرض إلا وقد كتب الله له محبة في ملئه الأعلى من الملائكة بعد أن ينادي – جل في علاه – أن قد أحببت فلانا فاحبوه ؛ فتراهم يثنون عليه كبيرهم وصغيرهم، بعيدهم وقريبهم، وكل من عرفه أو سمع عنه، لأن الناس شهداء الله في أرضه.

قال عنه الشيخ بن عثيمين – رحمه الله – بعد أن صلى خلفه: هذا رجل من بقية السلف الصالح نحسبه كذلك والله حسيبه.

وعندما سُئل معالي الشيخ عبدالله المطلق – حفظه الله – عن تطويل الشيخ الحواشي – رحمه الله – في صلاة التراويح في رمضان وأنه يبدأ من بعد صلاة العشاء وينتهي قبل صلاة الفجر، مايقارب ست ساعات، بحيث يختم في كل ثلاث ليالي ختمة.

أجاب الشيخ – حفظه الله -: (ليتنا جيرانٌ له)، تمنى مجاورته حتى يصلي معه في مسجده، ثم أثنى على الشيخ الحواشي وقال: هذا رجل عابد تذوق الصلاة، ونحسبه والله حسيبه عمله طيب، ويحي سنة. واستدل بقوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَىٰ مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ ۚ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ۚ…}.[ المزّمِّل: ٢٠].

إذا كان الليل عشر ساعات فإن ثلثي الليل ما يقارب ست ساعات ونصف تقريبا.

واستدل بحديث عائشة – رضي اللهُ عنها – أنها قالت: « كانَ رسولُ اللهِ ﷺ إذا دَخَل العَشْرُ أحْيَا اللَّيلَ، وأيْقظَ أهلَه، وجَدَّ، وشَدَّ المئزَرَ» متفق عليه.

ومعنى أحيا الليل: أي أحيا الليل كله.لان الألف واللام تفيد معنى العموم والاستغراق.

 

واستدل على ختم القرآن في ثلاث ليالي بقوله ﷺ: (لا يفقَهُ مَن قرأَ القرآنَ في أقلَّ مِن ثلاثٍ). [صححه الألباني في صحيح ابن ماجه]

فمعناه: من قرأ القرآن في ثلاث فإنه فقيه، لأن الحديث لم يذم الذي يختم في ثلاث، وإنما ذم الذي يختم في أقل من ثلاث.

مَاتَ الإمامُ القارئُ الحواشّي
شيخٌ عَلَى نُورٍ التِّلَاوَة نَاشِئ

تَبْكِي الخميسُ مِن الْمُصَاب إمَامَهَا
وعسيرُ فِي حزنٍ وَفِي إجهاشِ

يَا مَنْ يطيلُ صَلَاتُهُ بخشوعِهِ
مَا ذَاقَ للراحاتِ لِينَ فِرَاشِ

يَا حُزْنِه الْمِحْرَابِ فِي رمضانهِ
مِنْ بَعْدِ فَقَدْ الْقَارِئ الْحَواشِي

 

رحل – رحمه الله – صابرًا محتسبًا ليلحق بأبنه “أنس” البالغ من العمر سنتين، وابنته “تسنيم” البالغة من العمر أربع سنين، اللذين فقدهما في حادث الحريق المؤلم الذي تعرض له منزله ومسجده في عام ١٤٢٩ في أول أيام عيد الفطر، وأحال الحادث الأليم فرحة العيد إلى مأتم، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وبعد الحريق قرر الشيخ – رحمه الله – الرحيل من المنطقة الجنوبية ومن مدينة خميس مشيط والانتقال إلى المدينة المنورة ليقضي ما بقي من حياته هناك، قائلا: (سأنتقل إلى المدينة وقلبي يتفطر ألمًا وحسرة على مسجدي وطلابي، إن الحسرة على مسجدي لا تساويها الحسرات، وقد فقدت ابني أنس وهو من أحب أولادي وأقربهم إلى قلبي، وشقيقته تسنيم، ولكنني سعيد كونهما في كفالة إبراهيم، وإني على فراقهما لمحزون، وحزني على مسجدي أشد وأبقى، وأسال الله أن يربط على قلوب أمهما وعماتهما، وصبر جميل).

أَنَسٌ وَتَسْنِيمٌ تَوَارَى فِي الثَّرَى
الْقَلْبُ يَحْزَنُ وَالْعَيْنَانِ أسْبَلتَا

لكنه تراجع بعد ذلك عن قرار الانتقال إلى المدينة المنورة بعد إصرار الناس عليه بالبقاء في مسجده بالخميس.

ثم بعد ذلك انتقل من بلده الخميس إلى مكة ليكمل بقية عمره مجاورًا لبيت الله الحرام، فكانت منيته.

لقد أعاد الشيخ الحواشي – رحمه الله – للمسجد وهج رسالته التي أناطها به الإسلام بيتا ومدرسة للمسلمين، فقد كان المسجد على عهدرسول الله ﷺ سفينة نجاة في بحر الحياة المتلاطم، وشعلة ضوء يشع في حياة المسلمين، فيه يُعلم الجاهل، ويُرشد التائه، وتُحل المشكلات، وتُعالج المعضلات، ويشب فيه النشئ على حلاوة العبادة، ويتفقد الناس بعضهم البعض فيحصل التآزر والتعاضد والتآخي في أروع صورة، وأبهى حُلة، وكان للمسجد إبان أمامة الشيخ الحواشي- رحمه الله – من كل ذلك القدح المعلى، وأوفر الحظ والنصيب.

وفي الختام: رحم الله الشيخ أحمد الحواشي رحمةً واسعةً، وغفر له في المهديين، ورفع درجاتِهِ في عِليِّين، وألحقه بصالح سلف المُؤمِنين، آمين.

دَقّاتُ قَلبِ المَرءِ قائِلَةٌ لَهُ
إِنَّ الحَياةَ دَقائِقٌ وَثَوانِ

فَاِرفَع لِنَفسِكَ بَعدَ مَوتِكَ ذِكرَها
فَالذِكرُ لِلإِنسانِ عُمرٌ ثانِ

والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.