في كتاب (العاصمة القديمة) للكاتب الياباني ياسوناري كاواباتا, نتعرف على القيم اليابانية الأخلاقية ونمط حياة اليابانيين وعلاقاتهم الاجتماعية على جوهر ثقافتهم وفكرهم والصراع الذي بدأ بقوة بين التقاليد اليابانية العريقة واتجاه بعض اليابانيين لاعتناق طريقة الحياة الغربية بلغتها وعاداتها وأزيائها وفنونها, ومحاولة المواءمة بين روح الأصالة وروح العصر والتقدم التكنولوجي.

إنها رواية يابانية بامتياز, بأجوائها العذبة في رسم الشخصيات واندماجهم في تلك الطبيعة الساحرة الخلابة بلغة شفافة رقيقة وحوارات هادئة تتماشى مع الشخصية اليابانية التقليدية.

فهذه الرواية التي رشحت كاواباتا لنيل جائزة نوبل للآداب عكست الروح المحافظة عند كاتبها والرافضة لإندثار التراث والتاريخ بفعل التأثير الأجنبي, وتدور أحداثها في مدينة كيوتو عاصمة اليابان القديمة التي تم إدراج آثارها ضمن قائمة التراث العالمي لليونيسكو.

فقد تعمد كاواباتا أن يسرد أحداث روايته بإيقاع بطئ يضاد حركة الثقافة الدخيلة السريعة وكأنها حركة أمواج هادئة وينقل للقارئ كل أشكال الطبيعة في مدينته, فقد أخذت الأشجار والأزهار حيزاً كبيراً من حجم الرواية, ولم ينسى تصوير المعابد والمهرجانات الوطنية في العاصمة القديمة بأسلوب أخاذ مندمج مع لقاءات أبطال روايته وعلاقاتهم العاطفية.

بطلة الرواية هي الفتاة اللقيطة تشيكو المحبة للأزهار العاشقة للطبيعة وتجلياتها, التي تبناها تاجر الجملة تاكيتشيرو, مصمم الكيمونو والزنار (الزي الرسمي الياباني) الذي وجد نفسه في انحدار لأن الناس بدأوا يتخلون عن العادات القديمة والأزياء الشعبية.

عاشت تشيكو التي هجرها والداها وهي رضيعة وتركاها على أحد عتبات معبد في مدينة كيوتو, عاشت في حالة بحث عن ذاتها وجذورها المفقودة, وكأن تشيكو الفتاة اللقيطة الباحثة عن أصولها ترمز لمدينة كيوتو التي تواجه أحداث العالم المتسارع وتقاوم كل التهديدات المستقبلية بالتغريب.

وصف كاواباتا روايته بأنها نتاج اغترابه الأيديولوجي, وهي من جنس أدب ما بعد الحرب العالمية, حيث توالت الأحداث الروائية التي تصور سلسلة التغييرات التي طرأت على الحياة اليابانية بعد الهزيمة العسكرية, فالهزيمة العسكرية يتبعها في الغالب هزيمة ثقافية, وهذه الهزيمة انعكست على أحوال سكان مدينة كيوتو في هذه المرحلة الانتقالية.

تقول أحد شخصيات الرواية: (الجيش الأمريكي قام ببناء المجمعات السكنية الحديثة في مكان الحدائق النباتية, وبالطبع سيمنع المواطن الياباني من دخول هذه الأماكن) وهنا يبدي كاواباتا أسفه وتحسره على الطبيعة وأشجاز الأرز والكافور والأسفندان وأزهار الكرز والبنفسج التي ميزت مظاهر الحياة اليابانية العريقة, والتي صار الجيش المنتصر يقصيها من الحياة ويدمرها ويبني بدلاً عنها مجمعاته السكنية.

أراد كاواباتا تسليط الضوء على قضية ضياع التقاليد والتراث واللغة والزي الرسمي وتدمير مظاهر الطبيعة الذي مارسه المنتصر وطبقه حتى على مجال الحياة الثقافية والتراث الإنساني للشعوب المغلوبة.