كانت المقامة الأدبية ولم تزل, أحد أهم الآثار الأدبية الإنسانية وأكثرها تأثيراً, وحالة فريدة إبداعية إنفردت بها اللغة العربية, فهي جنس أدبي ذي خصائص متعددة, وقصص قصيرة تشبه القصيدة. وإذا كانت الأنواع الشعرية العربية تجد مقابلاتها في الثقافات الأجنبية, فإن المقامة تبدو عربية خالصة وجنس قصصي عربي قائم بذاته.

ويمكن تسمية المقامة في الأدب العربي إصطلاحاً, وهي ” قصة قصيرة الحجم ضمن لغة موسيقية, ومحسنات بديعية ونثرية ومحورها يدور حول حدث متخيل مستلهم من أحداث الكدية – الإحتيال – وشخصياتها الثانوية محدودة وتتركز على الضحية المخدوع الذي تقع عليه حيلة بطل المقامة, وتتغير من مقامة لأخرى, ويلعب دور البطولة فيها بطل محتال لديه قدرة عجيبة على التنكر, فهو يجيد لبس الأقنعة, فتارة نراه ناسكاً واعظاً وأخرى نديم كأس, ومرة ثالثة فقيهاً, وهو في كل الأحوال يعتمد على الفصاحة والذكاء والحيلة والخداع لنيل هدفه ممن ينخدعون بمظهره”.

ويعتبر بديع الزمان الهمذاني هو المؤسس الفعلي لأدب المقامة القائم على الإحتيال, وأخذت المقامة شكلها النهائي في “مقامات الحريري” للأديب البصري محمد الحريري, وهي ليست إلا تكراراً لمقامات الهمذاني وتقليداً مطوراً لها, لذا كانت مقامات الحريري أكثر إبداعاً وتشويقاً.

وبالمختصر, المقامة جنس أدبي يجمع بين البلاغة والإبداع القصصي, وتحتوي على كل فنون اللغة من سجع وطباق وبديع مع ما يتخللها من تلاعب بالألفاظ والإشتقاقات وإستعمال الغريب من المفردات, فهي قصة قصيرة ولكنها تتطلب توظيف شتى فنون اللغة, والكتابة بلغة إيقاعية ذات جرس موسيقي, وليس كل أديب بقادر على كتابة المقامة وليست كل لغة بقادرة على إستيعاب كل متطلبات المقامة بشكلها الأصلي الذي أبتدعه لنا بديع الزمان الهمذاني وقام بتطويره الحريري في مقاماته.

وقد خلد لنا التاريخ أسماء أبطال المقامتين, أبو الفتح الإسكندري بطل مقامات الهمذاني وأبو زيد السروجي بطل مقامات الحريري, وكلاهما يلعب دور الأديب- المحتال, والمقامة من ناحية الحبكة القصصية قائمة على الدور المزدوج الذي يلعبه البطل طوال الوقت.

وللمقامات الأدبية أهمية كبيرة في عالم الأدب ويعتقد الكثيرون بأنها كانت النواة الحقيقية لنشوء الرواية الواقعية الحديثة, وهي الأصل الذي قامت عليه كل أشكال أدب الطبقات الدنيا بمسمياتها كافة: (الأدب التشردي, أدب الصعلكة, أدب الكدية, أدب المهمشين) ومن هذا الأدب نشأ ما يعرف بالرواية البيكارسكية, وهي جنس أدبي جديد ظهر لأول مرة في أسبانيا ويهتم بالمتن السردي الذي يرصد حياة البيكارو أو الشاطر المهمش وتنسب هذه الرواية لبطلها بيكارو (Picario) المتسول الذي لا يبالي كثيراً بالقيم ومسائل الأخلاق ما دام الواقع الذي يعيشه منحطاً وزائفاً في قيمه, يسوده النفاق والظلم والإستبداد والإحتيال حتى من قبل الشرفاء والقساوسة والنبلاء ومدعي الإيمان والكرم والثراء.

إنتقلت المقامة العربية من المجتمعات العربية إلى أسبانيا عن طريق “عرب الأندلس” وأهتموا بها وبشرحها, حتى أضحت من أهم الأعمال الأدبية في أسبانيا, يقول علي الراعي: ” إن أثر المقامات الذي يعترف به دارسون عرب وغربيون, ربما كان أقوى أثر مفرد تركه العرب في الأدب الغربي, فعن طريق محتال المقامة قام الأدب الإحتيالي في أسبانيا وأمتد من ثم إلى فرنسا وألمانيا وإنجلترا ليكون الأساس لصرح الرواية الواقعية”.

ويقول جب (Gibb) أن “الروايات التشردية الإسبانية تقدم لنا نظائر معينة للمقامات في بنيتها”. كما يرى غونزاليز بالنشيا في كتابه (Historia de la literature arabiqo- espano) أن ” التشابه بين هذا النمط من الأدب (المقامة) والرواية التشردية تشابه مذهل وهذا الموضوع يستحق الدراسة”.

وما يستحق التأمل هنا, أن المقامات العربية ومع أهميتها الكبيرة وسعة إنتشارها في أسبانيا في القرون الوسطى بالتحديد, ولكنها لم تترجم إلى الأسبانية أو اللاتينية أو العبرية, بإستثناء محاولة “غير مكتملة” لترجمتها من الأديب اليهودي يهودا الحريزي للغة العبرية, والذي قام بتأليف مقامات شبيهة من ناحية الفكرة العامة بأحد مقامات بديع الزمان الهمذاني.

ومع الكم الهائل من السرقات التي تعرض لها الأدب العربي بداية من قصة حي بن يقظان وألف ليلة وليلة ورسالة الغفران للمعري وغيرها الكثير, ولكن هنا سؤال هام جداً يتبادر للأذهان: كيف دامت المقامة حكراً على اللغة العربية ولم تنتقل لأي لغة أخرى بشكلها الأصلي؟

لا أحد يختلف بأن فكرة المقامة القائمة على الإحتيال قد أثرت كثيراً على الأدب الأسباني, ولكن المقامة بمقوماتها اللغوية المعتمدة على توظيف فنون اللغة وخصائص اللغة لم تنتقل لأي لغة أخرى, فهي قد بدأت مع اللسان العربي وأنتهت معه ولم يتم تصديرها لأي لغة أخرى وخصوصاً اللغة الإسبانية التي تعد من أكثر اللغات تأثراً بالثقافة العربية.

فهل هذا يؤكد أن اللغة الأسبانية لم تتسع خصائصها لنقل هذا الفن كما هو؟ أعتقد بأن اللغة الأسبانية عجزت عن إستيعاب هذا الكم الهائل من الترف اللغوي الرفيع الذي تتطلبه المقامة الأدبية.