يظن الكثيرون أن كتاب البخلاء للجاحظ ليس إلا كتاباً هزلياً يحوي بين طياته قصص ساخرة وتهكمية بعيدة كل البعد عن الطرح الجاد والمنهجي المعروف عن الجاحظ, وهذا حكم ظالم للكتاب ومؤلفه, وحجب للإهداف الخفية من وراء تأليف الكتاب, وهي أهداف ذات أبعاد سياسية عكست الصراعات التي عايشها الجاحظ في العصر العباسي المشحون بالصراع والتنافس السياسي والإجتماعي والمذهبي. 

وأبرز هذه الصراعات هو الصراع الخفي في المجتمع بين مفهومي العروبة والشعوبية والجاحظ يدرك أبعاده وتداعياته, ويدرك جيداً شدة الصراع بين حماة العربية وأعدائها المتربصين بها وبأهلها الناطقين بها. 

فكانت فكرة تعزيز العروبة في ثنايا الكتاب هي الفكرة المستهدفة والمغزى الخفي للإسقاط السياسي, فأراد الجاحظ أن يبين بأسلوبه التهكمي اللبق حقارة البخلاء وأكثرهم من الشعوبيين, ليعظم شأن العرب المجبولين على الكرم عن طريق المقارنة بين البخل ونقيضه, وإبراز مساوئ البخل من خلال مدح الكرم ودافع عن القيم العربية بطريقة مبتكرة مستعيناً بثقافته وقدراته الأدبية الفذة. 

وكأن الجاحظ بدأ يرصد حشداً من المحاولات الساعية إلى رسم صورة نمطية سلبية عن العرب ولغتهم إلى الحد الذي راحوا فيه يرصدون عليهم كل أنماط السلوك في حياتهم اليومية في صور متعددة ومنها إتخاذهم من حرفة الرعي عند العرب مجالاً للتعريض بهم بشكل تهكمي ساخر. 

وهذه الرؤية الإستفزازية هي التي حفزت الجاحظ لكي يرد سريعاً, فقام بتأليف كتابه الشهير “البخلاء” مصوراً فيه بخلاء عصره بأسلوب يمزج فيه الجد بالهزل والنقد بالسخرية والحركة بالحوار المرن, وهؤلاء البخلاء بطبيعة الحال هم خصومه من الشعوبيين. 

وليس أمر البخل بهذه الأهمية التي تخيف عبقرياً كالجاحظ, وتجعله يفرد له كتاباً يحكي نوادر البخلاء وقصصهم وطريقة إحتجاجهم للدفاع عن أنفسهم, فالمسألة أبعد وأخطر, فهي تتعلق بصراع بين نوعين من الأخلاق, أخلاق العرب وقد جبلوا على الكرم والبذل, وأخلاق الأعاجم وقد طبعوا على حبس المال والخبل. 

ولم تتوقف القصة عند الصراع على العادات والتقاليد, فلقد حولتها السياسة إلى حرب عرقين مختلفين, فالبخلاء وجلهم من الشعوبيين, كانوا في مراكز قوية ذات شأن وخطر, ولم يكن من السهل أن يلعب الجاحظ بأسمائهم كما يريد وبحرية تجعلهم أضحوكة العصر, فإكتفى بأن أشار إلى المواضيع التي يخشى الدخول فيها إشارة حاذق, وإمتنع عن ذكر ما يلحق به الأذى به إمتناع حريص, وتحدث فيما يستطيع حديث فكه بارع, وقد وصل في النهاية إلى مبتغاه بطريقته الخاصة, وبإقتدار لماح فاق كل تصريح. 

والجاحظ أحد أبرز الأدباء الذين إستطاعوا ومن خلال مشروعه الجبار والمتكامل في اللغة والأدب إستمالة كثيرين من ذوي الهويات المختلفة إلى الدخول في الهوية العربية من خلال لغتها ذات البعد الديني وهي تجربة رائدة بحق في الحوار اللغوي, واستطاع أيضاً زرع الثقة في نفوس أبناء اللغة العربية المتشككين في قدرتها على الصمود ضد هجمات خصومها. 

الأسلوب الساخر والتلميحات المبطنة من أدوات الجاحظ لصد هجمة الشعوبية, فهو لم يرغب في المجابهة بأسلوب مباشر, فخصومه يملكون زمام السلطة والجبروت, وقد رأي كيف أقصوا مناوئيهم, فما كان أمامه سوى بث الأفكار بحذر ودقة بالغين في التخفي والذكاء.