خصلة الخلاف قائمة منذ زمن ولا جديد ولا حديث ولا تغيير .. هي حيرة وكم من حيرة وكم من تناقض .. لكن لماذا؟ لتكن الاجابة من بعيد عن السياسة ويبقى القياس هو المرجع.

في الزمن الحديث اعترت الحيرة الفكر العربي في نقل وترجمة كلمتين أعجمتين إلى لغتنا العربية فماذا حدث؟

كانت الكلمتان يخصان ما نفكر فيه باطنيا ، وفيما نفكر فيه خارجيا .. وكان أسبق الواضعين للترجمة كُتَّاب الأتراك. فقالوا في ترجمة ما نفكر به باطنيا (لاهوتي) ، وفي ترجمة ما نفكر به خارجيا (ناسوتي).

وقام من الأتراك العثمانيين كاتب المعي هو بابان زاده أحمد نعيم فاستحسن أن يقال مكان لاهوتي (أنفسي) ومكان ناسوتي (آفاقي) نسبة إلى كلمتي (الأنفس والآفاق) ناظراً في ذلك إلى الآية القرآنية الكريمة (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق).

أما كتاب العرب في مصر فربما كان نجاري بك رحمه الله هو أول من أعلن ترجمة هاتين الكلمتين إلى العربية في معجمه الكبير (الفرنسي والعربي) المطبوع سنة 1905 م. فقد فسر كلمة ما نفكر به باطنيا بكلمة (جوهر) ، وفسر كلمة ما نفكر خارجياً بكلمة (عرض).

ثم جاء بعد نجاري من كتاب مصر من ترجم المعنى الأول (بالذاتي) والمعنى الثاني (بالموضوعي).

وقال غير هؤلاء بل نترجم (بالفاعلي) و (بالمفعولي).

ثم ترجم الأستاذ الكبير بالعراق ساطع بك الحصري الكلمة الأولى (شخصاني) نسبة سريانية إلى كلمة (شخص) على حد قولنا (جسماني وروحاني) في النسبة إلى الجسم والروح. وفسر الكلمة الثانية (شبحاني) نسبة إلى (الشبح) الذي يرى من بعيد. ولم يكد يذيع الأستاذ ساطع بك رأيه في ترجمة الكلمتين ويبرهن على صحته حتى عارضه الأستاذ إسماعيل مظهر في مجلة (العصور) مدعياً أن ترجمة كتاب مصر لهما (بالذاتي) و (الموضوعي) خير من ترجمة الأستاذ ساطع لهما (بالشخصاني) و (الشبحاني).

وسئل الأب أنستاس الكرملي عن ترجمة هاتين الكلمتين فأجاب في مجلد السنة السادسة من مجلة (لغة العرب) بما نصه: يقابل في لساننا كلمة (الذهني) والثاني يقابله في لغتنا كلمة (الخارجي). قال أبو البقاء في كلياته عن الأول كذا وعن الثاني كذا. . . ثم نقل الأب الكرملي عبارة أبي البقاء بطولها.
ثم قالوا بالجوهر والمظهر .. إلى آخر ما اختلفوا فيه ولم يختلفوا ليركنوا فيما بعد للأحسن والأوفق ، بل اختلفوا ليبقى الخلاف أبدي بلا تقارب أو توفيق وبلا حَكَم.
هذا ما قاله كتابنا على اختلاف أمصارهم في ترجمة هاتين الكلمتين ، وقد دار محور النزاع بينهم حول سبعة أزواج من الكلم كما وردت فيما سبق.
ومن هنا نرى المترجمين لا يرجعون فيما شجر بينهم الا إلى أنفسهم. ولا يستمدون الحكم في فصل الخلاف اللغوي الا من ذوقهم. والأذواق مختلفة ، ولا تحكيم مع اختلاف المحكمين. والقراء حيارى بين هذا المترجم ، وذاك الواضع. وفي تعدد الأوضاع البلبلة والضياع ، فلم يبق الا أن يتولى المجمع أمر الوضع ، فيجمع الشتات ويرأب الصدع.

وبالقياس نقول قمة وفاتت ونرى الرؤساء والملوك والأمراء لا يرجعون إلا إلى أنفسهم ، ولا يستمدون الحكم في الخلاف من الله ورسوله ويمتثلوا له وكلهم مسلمين ، والشعوب حيارى بين هذا وذاك ويتشيعون لهم أيضا بأنفسهم ولا قياس ولا مرجع وهم أيضا شعوب مسلمة ، وفي تعدد المرجعيات بلبلة وضياع ، فلم يبق إلا أن يكون للجامعة الهامشية العربية تولي الأمر لجمع الشتات ورأب الصدوع. فهل تقوى يوماً على مالم تستطع حتى الآن؟
أعلل النفس بالآمال أرقبها * ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل