وطالما التقوى هي الغاية ، نستهل ونبدأ بالآية مرة أخرى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ” .. ونقول مرة أخرى أن القيم الروحية في الصوم تتركز أُسساً ومبادئ في هذه الكلمة المفيدة التي ختم بها الله سبحانه وتعالى الآية كريمة وهي “لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ”.
وسنتكلم عن التقوى ببساطة كما جاءت الآيات سهلة بسيطة ، فالتقوى تتألف من عنصرين: العنصر الأول “قول وفعل”: هو القيام بما أمر الله سبحانه وتعالى من فروض وواجبات ، في القول: كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي كان مع الإيمان مناط خيرية الأمة الاسلامية: “كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ”.
وكذلك القيام بما أمر الله به كله ، فمثلاً الصيام “امساك عن الطعام والشراب والشهوة وتهذيب للجوارح وتنقية للقلب” على الوجه الأكمل ابتغاءاً للتقوى ، وكالصلاة على وجهها الصادق الذي يترتب عليه الانتهاء عن الفحشاء والمنكر وهكذا في كل الأوامر الإلهية ….
أما العنصر الثاني من عناصر التقوى “نهي وعمل”: فإنه الانتهاء عما نهى الله عنه في القول كالغيبة التي يمثل الله فاعلها بمن يأكل لحم أخيه ميتاً ، والنميمة والهمزة واللمزة والسخرية والتجسس “وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ” ، “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ * يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ”.
والانتهاء كذلك بالعمل والفعل عن ما نهى الله عنه ، مثل الغش في المكاييل والموازين “وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ” ، وأيضا النهي عن الزور والتزوير والتلفيق ….
ونأخذ مثل فقط عن نتائج الغش في المكاييل والموازين: “وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ * وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ * بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ ” ، ولكن أهل مدين لم يستجيبوا لشعيب وسخروا به ، ولم يجدي فيهم أسلوب الرغبة أو الرهبة ، فكانت النتيجة ما عبر عنه الله سبحانه وتعالى للعبرة: “وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتْ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ * كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ”.
فإذا تحققت التقوى بالصوم ، فقد تحققت القيم الروحية التي أحبها الله سبحانه وتعالى للصائم. اللهم تقبل يارب صيامنا وقيامنا وصلاتنا ونسكنا وأعنا على الخير والصلاح.
ونحن في صيام متتابع من عشرين يوماً نرجو وجه الله والقبول والمنتظر الآن هو “الجمعة السعيدة” ، و “ليلة القدر” .. فنتكلم أولاً عن ليلة القدر ونعود للجمعة السعيدة بعدها.
بعد ما عرفنا أنواع الصيام والصائمين إيمانا بالروح ، وعرفنا أنواع أخرى صائمة ايماناً بالجسد والرشاقة ، وأيضاً عرفنا من يحسبون الليل كله سحوراً ولهواً واباحة كاملة من مطلع النجم إلى مطلع النهار ، وقلما صام الناس احتجاجاً على السياسة أو الظلم والقهر.
وعرفنا من يسهرون ليرصدوا ليلة القدر ، ولا يفهمون من ليلة القدر إلا أنها باصطلاح العصر – ليلة السيل SALE أي ليلة الأكازيون أو ليلة التخفيضات – أو هي بلغتنا الجميلة ليلة العروض والعرائض والطلبات التي تجاب!!
وأن ليلة القدر خير من ألف شهر كما جاء في القرآن الكريم ، ولكنها لم تكن خير من ألف شهر لأنها كما قلنا “فرصة” أو “أوكازيون”!! إنما هي خير من ألف شهر لأنها فاتحة عهد جديد في تاريخ الضمير ، هدى للناس وبينات.
ومنا من لا يرقب موعداً مع العمر كما يرقب موعدها ، فلعلها في السابع والعشرين من رمضان ولعلها في لياليه السبع الأخريات ، ولعلها خفيت لكي يُحيى من يريدها الليالي الكثيرة طلباً لموافقتها ، ولعلها مما نشير إليه ولا نحصيه.
قال الأستاذ الأمام محمد عبده رحمه الله “سميت ليلة القدر إما بمعنى التقدير ، لأن الله ابتدأ فيها تقدير دينه وتحديد الخطة لنبيه في دعوة الناس إلى ما ينقذهم مما كانوا فيه ، أو بمعنى العظمة والشرف من قولهم فلان له قدر أي له شرف وعظمة ، لأن الله قد أعلى فيها منزلة نبيه وشرفه وعظمه بالرسالة. ثم قال أنها خير من ألف شهر لأنه قد مضى على الأمم آلاف من الشهور وهم يتخبطون في ظلمات الضلال ، فليلة يسطع فيها نور الهدى خير من ألف شهر من شهورهم الأولى …”
وقد اصاب الأستاذ الإمام رحمه الله ، فما من ليلة تساوي ألف شهر في تقويم السماء لأننا نجمع فيها ما لم نجمعه في ثمانين سنة من أرباح المطامع وعروض الحطام ، لكنها تزيد على ألف شهر لأنها هداية العمر كله ، وقلما يزيد العمر على تلك الشهور.
“وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ”. ومازلنا مع ليلة القدر ، ليلة التقدير ، ليلة الشرف والعظمة.