ومع إيحاء رمضان القومي والشعبي نعيش مع الايحاء الزمني قليلاً ونوضح ما هو رمضان من قديم وما هو النسيء ، ولماذا استدار رمضان من الرمضاء إلى المرور بكل فصول العام؟ وما علاقة ذلك بالصيام؟

فقد كان رمضان شهر قديم الحرمة في الجاهلية. وكان من عاداتهم أن يصوموا أياماً منه ، يبدأونها أحياناً من النصف الثاني من شعبان ، تيمناً بالصيف وتقرباً إلى أربابهم أن تجعله موسماً من مواسم الخصب والرغد ، وكانوا يسمونه قديماً بالناتق أو الناطل ، من الناقة الناتق أي كثيرة الولادة ، أو من الناطل وهو كيل السوائل. ولاتزال كلمة النطل تفيد معنى قريب من هذا المعنى ، سواء باللغة العربية الفصحى أو بالعامية التي تجري على ألسنة السواد.

ومما زعمه أحدهم أنه اسم من اسماء الله ، وعللوا ذلك أنه كلما ذكر قيل: “شهر رمضان” ، ولم يذكروه فرداً بغير إضافة كما يقولون مثلاً: “شعبان صفر والمحرم” وسائر الشهور الأخرى ، ويروي صاحب لسان العرب عن مجاهد أنه كان يكره أن يجمع رمضان إذ يجمع على وزن جمع المؤنث السالم وعلى أوزان جمع التكسير ، ويقال: رمضانات أو رماضين أو أرمضة و أرمضاء إلى آخره ، ثم روي صاحب اللسان عن مجاهد أنه قال: “بلغني أنه اسم من اسماء الله عز وجل”.

ويجوز أن اسمه مشتق من الرمض وهو المطر يأتي قبل الخريف فيجد الأرض حارة محترقة. لكن الرأي الغالب أنه مشتق من الرمضاء ، وأنه كان يأتي مع الرمضاء في كل سنة ، لأن عرب الجاهلية كانوا يحسبون تاريخهم بسنة قمرية شمسية ، فيضيفون تسعة أشهر كل أربعة وعشرين سنة ، أو يضيفون سبعة أشهر كل تسع عشرة سنة ، أو يضيفون شهراً كل ثلاث سنوات حسب مواقع الشهور ، ويغلب أن يكون هذا الحساب كان متبعاً في مكة دون البادية ومن يسكنها من الأعراب الذين لا يحسنون الحساب ، ولكنهم يتبعون فيه أهل مكة بجوار الكعبة ، لأن شريعة الكعبة هي التي كانت تسن لهم تحريم القتال في شهور من السنة وإباحته في سائر الشهور.

وقد بحث العلامة محمود باشا الفلكي رحمه الله هذه المسألة في رسالته “نتائج الأفهام في تقويم العرب قبل الإسلام” فرجح أن أهل مكة كانوا “يستعملون التاريخ القمري مدة الخمسين سنة قبل الهجرة” وإنما كانوا أصحاب الحساب يتصرفون في التقديم والتأخير إن أرادوا الحرب في الأشهر الحرم أو أرادوا منعها في غير هذه الأشهر وفقاً لأهوائهم ومنافعهم. ومن هنا كان تحريم الإسلام للنسيء ، لأنهم يحلونه ويحرمونه كما يشاؤون ، ولا يستقيم الأمر على هذا الحساب بعد فرض الصيام في “أيامٍ معدودات” والحج في “أيام معلومات”.

“إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ”

ونعود بعد تبيان النسيء ولماذا كانت حرمته وعلاقته بالصيام إلى فريضة الصيام: لم يفرض الصيام في شهر رمضان منذ قيام الدعوة الاسلامية والجهر بها ، بل كان النبي عليه الصلاة والسلام يصوم في كل شهر ثلاثة أيام ، ثم فرض صيام رمضان كله بعد الهجرة إلى المدينة “شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ” ، وأتبعها الله سبحانه بهذه الآية دلالة كبرى على ارتباط الصيام بالدعاء وبالتالي بالصلاة “وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ”.

ومن المعلوم أن القرآن الكريم تنزل في ثلاث وعشرين سنة ، فالمقصود إذن على القول الراجح بين المفسرين هو ابتداء النزول ، إذ تواتر أن النبي عليه الصلاة والسلام قد تلقى الوحي أول مرة وهو يتعبد في غار حراء. ومن هنا كان شهر الثورة السماوية على الباطل فإذا كان لرمضان كل الإيحاءات التي أشرنا إليها بما فيها الإيحاء الروحي من جهة ما فرض فيه من عبادة الصوم وترك المشتهيات ، فإنه له من جهة أخرى إيحاء بثورة سماوية زلزلت عرش الباطل وهدمت قوائمه وأركانه بحدث واحد ، ذلك الباطل الذي أفسد على الإنسان عقله فأنكر ربه خالقه ، واتجه إلى ما لا يسمع ولا يعقل ، فعبد الشمس والقمر والأصنام والأوثان ، واتجه في شدته وكربه إلى ما لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضرراً ، ذلك الباطل الذي أفسد على الإنسان عاطفة الرحمة والعدل وملأ قلبه جبروتاً وقسوة ، فقتل الأبناء ووأد البنات وهتك الأعراض واستلب الأموال واستذل الضعفاء وسخر الفقراء ، ولم تجد الشفقة والرحمة منفذاً إلى قلبه وسلب الإنسان خاصية الإنسانية ، ذلك الباطل الذي أفسد على الإنسان تصوره للحياة والمعرفة والعلم فظنها مادة عليها يتهالك ، ولها يجمع وبشهواتها يلهو.

أغضب هذا الباطل رب السماء ، ولم ترض الحكمة الإلهية ببقاء الإنسان على هذه الحال ، يكتنفه الفساد من كل جانب ، فأطلق رب السماء نور الحق الحدث الأعظم في شهر رمضان على يد محمد صلى الله عليه وسلم فأنزل عليه النور المبين توجيهاً له نحو القضاء على الفساد: “اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ”.

“وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً”.
وإلى اللقاء بإذن الله تعالى في المقالة القادمة رمضان كريم.