عليكم سلام الله ! إني مودع, وعيناي, من مض التفرق, تدمع

فإن نحن عشنا يجمع الله بيننا, وإن نحن متنا, فالقيامة تجمع

ألم تر ريب الدهر في كل ساعة له عارض فيه المنية تلمع

أيا باني الدنيا, لغيرك تبتني, ويا جامع الدنيا, لغيرك تجمع

أرى المرء وثاباً على كل فرصة وللمرء يوماً, لا محالة, مصرع

تبارك من لا يملك الملك غيره, متى تنقضي حاجات من ليس يشبع

وأي إمرىء في غاية ليس نفسه إلى غاية أخرى, سواها, تطلع

إحتل الزهد مكانة ملحوظة في تاريخ البشر حيث وجدوا فيه الوسيلة الناجحة لتربية النفوس وتهذيب الأخلاق وإعلاء الجانب الروحي في الإنسان.

وفي العصر العباسي تحديداً, حيث عاش أبو العتاهية, رائد الزهد في الشعر العربي وأشهر رموزه على الإطلاق, أنه صاحب القصيدة المثيرة للأشجان والمذكورة أعلاه.

العصر العباسي, عصر الظواهر الاجتماعية المتناقضة والمتطرفة, فهو عصر الثراء الفاحش كما أنه عصر الفقر المدقع, وهو عصر اللهو والمجون والزندقة, كما أنه عصر التدين والتصوف والزهد.

عصر إختلط فيه الحابل بالنابل, وتصارعت فيه ثقافة العرب بثقافة العجم, وعاش فيها جنباً إلى جنب شتى الديانات في تسامح أحياناً وفي تنازع أحياناً أخرى, أشتركوا في حياة طفت فيها على السطح ظاهرة المجون الذي غرق في مآثمه الكثير من مترفي العصر وبلغ حد الإستخفاف بالدين والتقاليد.

فإذا كان أبو نواس قد فتح للناس باباً جديداً في الغزل والمجون والإباحة والإقبال على الحياة والبراعة في وصف الخمر, فإن أبو العتاهية المثير للجدل في كل العصور قد فتح لهم باباً أخر في الزهد والكف عن الحياة والتذكير الدائم بالموت والمصير.

ففي هذا العصر المزدحم بكل المتناقضات, نلمح أن الزهد الذي تزعمه أبو العتاهية كان يسير في خط مواز مع خط المجون الذي تزعمه أبو نواس ولكل منهم أنصاره ومؤيدوه, وراح الوعاظ يوظفون أشعار أبي العتاهية في مواعظهم الدينية التي تلهب مشاعر المتلقين.

عاش أبو العتاهية في عصر كانت العقول قد بدأت تتجه في أمور الدين إتجاهاً جديداً, ساعدهم على ذلك كثرة من دخلوا في الدين الإسلامي من علماء الأعاجم مع ترجمة الكتب الرومانية واليونانية والهندية والفارسية والسريانية ونحوها, فكان إزدهار حركات الزهد والإنكفاء على الذات رد فعل طبيعي على أمر طارئ على الهوية العربية والإسلامية المهددة بالضياع والتمزق.

أفرغ أبو العتاهية كل مواهبه وطاقاته في مجال الزهد وجعل منه مجالاً لقصائده المحدثة والتي خرج فيها عن السياق المعتاد للقصيدة العربية الكلاسيكية وأبدع في خلق نموذج جديد للقصيدة ذات أبعاد وأفق مبتكرة, وإذا نظرنا إلى جميع ما خلقه شعراؤنا من نتاج عبقرياتهم المتنوعة في الشعر, فلا نكاد نجد لأحدهم ديواناً تدور معظم قصائده حول موضوع واحد, كما دارت قصائد شاعرنا الفنان –أبو العتاهية- في ديوانه حول موضوع واحد لا يتجاوزه وهو الزهد, وتلك ولا ريب ميزة لأبي العتاهية تقاس بمقياس التخصص الذي يميل إليه عصرنا حتى في الشعر.

ومع إدراك شاعرنا بأن حديث الزهد وما يلحق به من حديث الموت والأخرة ليس من أحب الأحاديث إلى الناس إن لم يكن أثقلها على نفوسهم, ولكنه إستطاع أن يعالج الموت وسوداويته بعقل الفيلسوف وبصيرة الفنان وحكمة المثقف المتبحر في شتى المعارف والثقافات, ويخلق لنا بمخيلته الفذة إبداعاً منقطع النظير, ويضخ في قصائده الإبداع والجمال لتكون في متناول يد الجميع, نظراً لسلاستها وبساطتها وبعدها عن التعقيد والتصنع, مع ما يتخللها من قوة في التأثير وتحريك المياه الراكدة في أعماق النفس البشرية التي إستكانت للحياة والعبث, فخرجت لنا قصائده تنضح بالإيمان والثقافة الواسعة والنظر العميق في صورة سهلة ومبسطة خالية من أي تكلف في لفظ أو معنى.

ومع تفرد أبو العتاهية في مجال الزهديات, لم ينجو من محاولات النيل منه, فقد تعرض أبو العتاهية لحملة من التشكيك في معتقده الديني ومذهبه الشعري, وصلت حد وصمه بالزندقة وإعتناق كل المذاهب والأفكار المنحرفة مثل المانوية والجبرية والدهرية, وأزاحوا تزهده من خانة الزهد الديني إلى خانة الزهد التأملي الفلسفي والصوفي, وهو الزهد المتأثر بالثقافات الدخيلة على المجتمع الإسلامي.

وأتهم أبي العتاهية أنه يخفي دوافع سياسية شعوبية وراء زهده, تهدف إلى هدم النشاط والقوة والحيوية في المجتمع الإسلامي وإشاعة روح التواكل والتشاؤم في أركانه حتى ينحل وتخبو شعلته.

وهناك من المستشرقين الأوروبيين من ربط بين زهد أبو العتاهية وحياة بوذا ومفاهيمه التصوفية الهاربة عن ملذات الحياة وبهرجها, وقد كان للمذاهب الهندية أثر كبير في نزعة الزهد التي ظهرت بقوة في القرن الثاني الهجري, فهل كان زهد أبو العتاهية نابع عن تأثره بالديانة البوذية وبتعاليم بوذا؟

ويقول عنه الدكتور شوقي ضيق: (ويسود زهدياته تشاؤم أسود حزين, فالحياة ليس فيها إلا الأثم والموت وغصصه) في وصف لزهديات أبو العتاهية بأنها تشاؤمية سوداوية خالية من أي شكل من أشكال الحياة والفرح, وفسرها البعض بأنها وسيلة إستعان بها أبو العتاهية لإظهار تحسره على عشيقته (عتبة) والتي كانت عازفة عن عشقه مما سبب له إنتكاسة معنوية ونفسية إضطرته لأن يلوذ بالزهد كتعويض عن ما يعانيه من أسى وحزن على فقدان عشيقته.

وأحد التفسيرات المضحكة والإتهامات التي طالته في زهده الشعري, أنه إنما كان يكثر من شعر الزهد إستجابة لرغبة كانت تبديها السيدة زبيدة (زوجة هارون الرشيد) بين حين وأخر مؤملة أن تصرف قصائد أبو العتاهية المليئة بالعبر والمواعظ زوجها عن بعض لهوه, وأنها كانت تغريه على ذلك بالمال الوفير.

وأشاع بعض ناقديه مثل أبو الفرج الأصفهاني أن قلق أبو العتاهية وإضطرابه حيال ذلك اللغز الأبدي (الموت) وبدافع من سوء النية عندهم أو سوء الفهم, كان إتهامهم إياه بالزندقة وإنكار البعث ويستند هذا الإتهام أساساً إلى أن شعره إنما هو في ذكر الموت فقط دون ذكر النشور والمعاد والجنة والنار, وطبعاً في شعره ما يدحض مثل هذه الإتهامات فقد ذكر الحساب والعقاب والثواب والمعاد والجنة والنار ومثوبة المؤمنين وعقاب الكافرين في مرات عديدة.

والصحيح أن ما وجه لأبي العتاهية من تهم مبعثها حسد الحساد والمناوئين وهم عصبة في كل بلاط, وقارئ الزهديات يجدها مفعمة بالنظريات الحكيمة والأراء السديدة والتأويلات الخصبة في شعر أهم ما يميزه الوضوح والسلاسة كما يتضح في قصيدته الأتية:

إلهي لا تعذبني فإني مقر بالذي قد كان مني

وما لي حيلة إلا رجائي, وعفوك, إن عفوت وحسن ظني

فكم من زلة لي في البرايا, وأنت علي ذو فضل ومن

إذا فكرت في ندمي عليها, عضضت أناملي, وقرعت سني

يظن الناس بي خيراً, وإني لشر الناس, إن لم تعف عني

أجن بزهرة الدنيا جنوناً, وأفني العمر فيها بالتمني

وبين يدي محتبس ثقيل, كأني قد دعيت له, كأني

ولو أني صدقت الزهد فيها, قلبت لأهلها ظهر المجن

وقد قال هذه القصيدة الرائعة في أخر أيامه, وفيها إستشعار لدنو الأجل, يقربه من الله ويجعله منسجماً مع طبيعة النفس فهو يعترف بذنبه ويرجو مغفرة ربه ويقر بحبه الدنيا ولذاتها وهو أمر مركوز في النفس البشرية لأنها تعيش بين الخوف والرجاء, وهو ما عبر عنه أبو العتاهية في هذه الأبيات وفي غيرها موضحاً فيها الصدق الفني.